نشرت مجلة «الثقافة» المصرية عام 1944 مقالة، جاء فيها أن الأدب الأميركي حمل لواءه رجال مارسوا الحياة العملية في شتى شؤونها، فلما كتبوا لم يفعلوا في خيال وأوهام وأحلام، وإنما وجدتهم يكتبون في مشكلاتهم الحالية ومسائلهم اليومية وحياتهم الاجتماعية، فلم يستوحوا أساطير اليونان والرومان كما يفعل الأديب العربي باستدعائه القديم، فيستوحي امرأ القيس أو شهرزاد كنوع من أدب لا هو النوع الأغلب، ولا هو الأرقى، تلك كانت وجهة نظر الكاتب والمؤرخ أحمد أمين، التي خالفها تماماً المفكر الأديب توفيق الحكيم، مؤكداً أن استيحاء أساطير اليونان والرومان وامرئ القيس وشهرزاد هو النوع الأرقى في الأدب وفي كل أدب، لأن الإنسان الأعلى في نظره هو الذي يصون الجمال الفني عن الاشتغال الأرضي في أي صورة، فيحتفظ فيه بمتعته الذهنية وثقافته الروحية، وكما يقول الحكيم: «إن اليوم الذي نرى فيه أن «الأدب» قد استغل للدعاية الاجتماعية، و «التصوير» في معارض الإعلان عن السلع التجارية، و «الشعر» لإثارة الجماهير في الانتخابات السياسية، لهو اليوم الذي نوقن فيه أن الإنسان قد كر فانقلب طفلاً، يضع في فمه تحف الذهن وطرق الفكر، لأنه لا يدرك لها نفعاً غير المادي المباشر، أما الأدب الأميركي، فهو في أغلبه صحافة راقية أكثر مما هو أدب حقيقي، فالخلاف بيني وبين صديقي هو على معنى «الرقي»، وبغير هذا الرقي ما عاش لنا فن، فالسلطان يذهب، والدولة تدول، والشعوب تتغيّر، لكن الفن الراقي باق».
فما هو رأي القارئ؟ هل يميل إلى أن الأدب والفن عموماً هما ترجمة لواقع الحياة، وأن الفن المسخَّر لخدمة الضرورات اليومية في المجتمع هو الفن الأرقى؟ أو هو مع الرأي الذي «لا» يرمي إلى تملق الجماهير، ومداهنة الدهماء، ومسايرة السواد من الناس والشعوب، لأنه لا يضمن إن حصل ألاّ يكون على حساب القيمة الفنية للعمل نفسه؟ ثم والسؤال: هل بالإمكان أن يوجد فن يخدم المجتمع من دون أن يفقد شيئاً من قيمته الفنية العليا؟ حين تقرأ شعر المتنبي تجد أنه صحيح خرج علينا من وحي الدنانير، ولكن على رغم أن المال كان باعثه، إلا أن الفن كان غايته، فأعطني هذا النوع من الفن اليوم وتحت أي مسمى (خدمة لمجتمع أو مصلحة لأفراد) وأنا أرحب به وأسلّم من الفور بأنه الأرقى، غير أنها توليفة صعبة لا تجتمع عادة ولا تتهيأ سوى لقلة مصطفاة لا تظهر في كل زمان ومكان.
فإلى أين يتجه الأدب العربي المعاصر؟ وأين ذهبت العقيدة الأدبية والإيمان الفني، وهما أرفع من المصالح الخاصة والغايات الشخصية؟ ثم وللإنصاف، هل بالإمكان في هذا الزمن «غير الجميل» والقاسي بظروف عيشه أن يتجرد الأديب والفنان لغاياته الفنية؟ الفنان إذا لم يقل أنا فهو ليس بفنان، فأساس كل فن هو الفردية، وبغيرها لا يقوم فن، ومن النزعات الفردية وما تأتي به النزعات، تنتفع الجماعات والبشرية. على أنه لا ينبغي الخلط بين الفردية والأنانية، فالمقصود بالفردية المعنى الفني لا المعنى الخلقي، إلى هنا والكلام معقول، أو هكذا أعتقد، ولكنني أتساءل: إن ظهر اليوم فن أو عمل فني بمستوى رفيع وجمهوره قلة تكاد لا تذكر، فلم يلق صدى لدى المتلقي العادي، لأن وعي هذا المتلقي لم يصل بعد إلى درجة الفهم والاستيعاب لقيمة العمل الفني ومضمونه، فهل نضمن لهذا العمل أن يبقى ويعيش؟ فحين نقول للفنان اليوم اصنع فناً، فعن أي فن نتحدث؟ وحين نقول للأديب اصنع أدباً، فعن أي أدب نتحدث؟ تقول أحلام مستغانمي: «إن الكتابة تطهّر مما يعلق بنا منذ لحظة الولادة، ابحث عن القذارة حيث لا يوجد الأدب»، ويا ليتني هذه المرة أوافق مستغانمي في رأيها، فالهبوط استشرى ووصل إلى كل شيء، ليذكرنا بتفاهاتنا الأرضية، وهنا عظمة الفن والأدب، فحتى في هبوطهما نحن نتذكر هبوطنا.
1 comment
المقال اكير من رائع وارجو الاطاله في والتوضيح اكثر لان كثير من القراء لايمكنه فهم المختصر من الكلام ..شكرا