كانت ثورة العشرين ضد الإستعمار الإنكليزى الذى حكم العراق تمثل مرحلة هامة حاسمة ومؤثرة من تاريخ العراق وتحولاته. ومن الغريب أن الكثير ممن يكتب ويتحدث هذه الأيام يسلط الضوء على المرجعيات الفارسية غافلا ذكر المرجعيات العربية التى بدأت الثورة وصنعتها قبلهم بسنين وأفتت بذلك قبل 1920 بعدة سنوات أى عام 1914 م وهى نفسها التى راسلت مراجع النجف وكربلاء وسامراء وحركتهم ثم اقتنع هؤلاء وأصدروا فتاواهم لاحقا استجابة للمرجعية العربية وربما أرسل بعضهم أولاده بأمرة المرجعية العربية بعد أن خرجت المرجعية العربية بنفسها مضحية بالغالى والروح والنفيس، ولكن ترك ذكر أى دور للمرجعيات العربية وعدم ذكرهم أصلا فهو مجانب للحقيقة لمصلحة المرجعيات الفارسية وأجندتها التى سيطرت وألغت المرجعيات العربية ودورها دائما وعلى مر التاريخ العراقى.
وفى المقابل أطنب البعض فى دور محسن الحكيم القيادى فى الثورة خصوصا الخطابات الرنانة لآل الحكيم، وهو مجانب للحقيقة تماما فقد كان الحكيم صغيرا آنذاك ومقودا وليس قائدا
ولأن الموضوع واسع ومتشعب فإنى سأقتصر فى هذا البحث الآن على مرجعية واحدة كان لها دور قيادى ورئيسى فى الثورة وهو مهدى الحيدرى من الكاظمية ببغداد وقد عانت الكاظمية دوما من التهميش على مر التاريخ وإلى يومنا هذا ومن أهم الشواهد المعاصرة هو تهميش مرجعية الصدر الأول ومحاربة الصدر الثانى والمرجعيات المعروفة فى الكاظمية من الحيدرى والخالصى والصدر وآل ياسين والأعرجى وغيره لدرجة قول أحد أبرز مراجعهم عندما سئل عن الحرب الشعواء ضده من المرجعيات الفارسية والإتهامات اليومية الكاذبة لتسقيطه أجاب (لو كنت فارسيا مقيما فى النجف ومشيت فى مخططهم لكنت المرجعية العليا صاحب الألقاب الكثيرة الرنانة كما توضع لأصغرهم من المرجعيات الفارسية فشتان بين محمد باقر الصدر الذى كتب اسمه خاليا من أى لقب وآخر إيرانى كان حريصا على وضه ألقاب كثيرة قبل اسمه حتى فى رسالته العملية الكلاسيكية والتقليدية التى أشبعت بما لاثمرة ولا فائدة فيه من الإماء والعبيد وتطهير ماء البئر عند وقوع حشرة أو أمثالها كثير وأسلوب قديم يعيش فى قمة الجهل والدجل والقرون الوسطى فى استغراق المرء فى اختياطات غير مقبولة ولا معقولة لاتجدها فى رسائل عربية مثل الفتاوى الواضحة لمحمد باقر الصدر)
ولأهمية الدور القيادى لمهدى الحيدرى فقد كتب عنه العديد من المؤرخين المنصفين منهم المؤرخ المعروف والمختص أحمد الحسينى كتابا خاصا أسماه (الإمام الثائر مهدى الحيدري) معتبرا الحيدرى هو القائد الحقيقى للثورة ومنذ عدة سنوات أى عام 1332 هجرية بل خرج بنفسه للثورة وفى جبهات القتال الأمامية وعرض حياته للخطر مع أبناءه وأسرته ومريديه لمقاتلة الإنكليز وهو يناهز الثمانين من العمر آنذاك.
وقد ذكر مرجعية مهدى الحيدرى ودوره وحياته جملة كبيرة من المؤلفات منها أعيان الشيعة، معارف الرجال، الكرم البررة، نقباء البشر، جنة المأوى، أحسن الوديعة فى تراجم أشهر مشاهير مجتهدى الشيعة، معجم رجال الفكر والأدب، الثورة العراقية الكبرى، تاريخ الحركة الإسلامية فى العراق، الشيعة والدولة القومية، دور الشيعة فى تطور العراق السياسى الحديث، النفحات القدسية فى تراجم أعلام الكاظمية، حركة الجهاد1914، البطولة فى ثورة العشرين، كتاب فى دورى الإحتلال والإنتداب. فضلا عن الكثير من الجرائد والمجلات والصحف مثل المرشد، الأقلام، صوت الكاظمين، آفاق عربية وغيرها رغم أنه فات البعض الإعداد والتهيئة للثورة قبل قيامها من الوعظ والتوعية والإرشاد لمهدى الحيدرى حتى نضجت الثورة واكتملت شرائطها الموضوعية.
قال محسن الأمين متحدثا عن الحيدرى فى أعيانه (إنه عالم فقيه وله رئاسة علمية فى عصره وقيادته للثورة العراقية) وقال محمد حرز الدين فى معارفه (إنه العالم لبفقيه المجاهد الثقة الأمين وله مكانته السامية وزعامته العلمية والدينية وكان مقدما وبارزا ونافذ الكلمة ومطاعا عند الأكابر والوجوه) كما ذكره صاحب كتاب معجم رجال الفكر والأدب وصاحب كتاب أحسن الوديعة فى أشهر مشاهير مجتهدى الشيعة كلاما مشابها. ونظم الشعراء قصائدهم الكبيرة فى مدحه مثل عيسى الأعرجى وأسد الله الخالصى وعبد الحسين الأزرى محمد رضا أسد الله وسليم العاملى وكاظم آل نوح
كان الحيدرى مرجعا كبيرا وأستاذا فاضلا درس على يديه وتخرج عنده الكثير من المراجع والأعلام والفضلاء مثل جواد التبريزى وأسد الله الخالصى والمرعشى النجفى وعبد الهادى الشيرازى ومهدى المراياتى ومهدى الجرموقى عبد الحسين البغدادى وإبراهيم السلماسى محمد أمين الحسنى محمد هادى القائينى وعبد الكريم الأعرجى وعيسى الأعرجى راضى محمد ومصطفى أحمد وأسد الله مصطفى وأحمد مصطفى وغيرهم كثير. وألف عددا كبيرا من الكتب منها كتاب الطهارة فى 6 مجلدات والصلاة فى 6 مجلدات والصوم وتقريرات فى الأصول وكتاب فى الرجال وتعليق على فرائد الأنصارى وتعليق على إستصحاب الأنصارى وحاشية على قوانين القمى وحاشية على تبصرة الحلى وحاشية على نجاة الجواهرى وحاشية على وجيزة آل ياسين وكتاب فى الهيئة ورسالة عملية باسم (زاد العباد ليوم المعاد) حيث قلده الملايين رغم رفضه استلام الكثير من أموال الحقوق الشرعية والخمس لشخصه كما ذكره الشهرستانى مضيفا (لا تأخذه فى الله لومة لائم وقد ملك قلوب الخاصة والعامة بحسن سيرته وطيب سريرته وكرم أخلاقه ومحاسن خلاله وكانت له الهمة العالية فى الأمور الخيرية وإصلاح ذات البين وإنجاز كل عمل يتولاه ومشروع خير يقوم به) مجلة المرشد/الجزء التاسع/المجلد الثانى/الصادر سنة 1346 هجرية/ الصفحة 343
إبان الحرب العالمية الأولى وفى سنة 1332 هجرية، دخلت القوات البريطانية غازية العراق من جهة البصرة فراسل الناس مختلف المرجعيات الدينية والسياسية مستغيثين حتى قرئت رسائلهم بالصحن الكاظمى فى العشرين من ذى الحجة حتى قام مهدى الحيدرى خطيبا ومحرضا لاستنهاض الناس وتوعيتهم وتجميعهم ثم ما أن حل محرم الحرام حتى أفتى بوجوب قتال الإنكليز ويبلغهم أنه ذاهب إلى البصرة مع سلاحه مدافعا عنها مع أولاده خصوصا أسد الله وأحمد وراضى ومتعلقيه ومريديه. وأبرق رسائله مصحوبة بفتاواه إلى علماء كربلاء والنجف وسامراء ومختلف مناطق العراق وأخبرهم بعزمه على الجهاد رغم تجاوزه سن الثمانين. وصارت الكاظمية مركز الحركة وبيت الحيدرى مركز القيادة وبدأت الوفود تأتى إلى الكاظمية من كل أنحاء العراق بعضهم يفاوضه وبعضهم يعارضه وبعضهم يؤيده فمثلا جاء من النجف قبل سفره بيوم واحد وفد متميز ضم شيخ الشريعة الإصفهانى ومصطفى الكاشانى وعلى الداماد وغيرهم كثير. وأما محمد تقى الشيرازى فقد بعث ولده الأكبر محمد رضا تحت إمرة الحيدرى وأبرق إلى العلماء بطاعة وقيادة الحيدرى، كذلك فعل محمد كاظم اليزدى حيث بعث ولده محمدا، وجاء من النجف محمد سعيد الحبوبى مع مجموعة متجهة إلى ساحة المعركة. تحرك الحيدرى من الكاظمية يوم الثلاثاء 12 محرم عام 1333 متوجها نحو القرنة وقد صحبه أبناؤه ومتعلقوه ومريدوه فضلا عن مهدى الخالصى وعبد الحميد الكليدار فى مجموعات كبيرة تمتد امتداد البصر وهى تردد هتافات (سيد مهدى ركن الدين نمشى للجهاد وياه واندوس العده بحذاه) (حجة الإسلام طالع للجهاد محصن بموسى والجواد). أعدت لهم السفن والمراكب وفى كل مكان ينزل يتجمع الناس ويخطب فيهم أو ولده أحمد وتلتحق به الجموع حتى وصل العمارة فاجتمع الناس فى جامعها الكبير ليقوم الحيدرى خطيبا مفوها شلعلا الحماس فى النفوس فبكوا كثيرا والتحقوا به زرافات زرافات وصل إلى منطقة العزيز واجتمع بالقائد العسكرى العثمانى جاويد باشا للتفاهم فى القتال واتحاد السنة والشيعة ضد الإحتلال ولكن سقوط القرنة ومحاولة تخلية العمارة للقائد العسكرى لكن الحيدرى رفض الإستسلام والإنسحاب قائلا (أما أنا فلا أنسحب حتى أقتل أو أنتصر) رغم اصرارهم عليه للتخلية مما جعل القائد يؤيد الحيدرى ويصمد. بدأ الحيدرى يكاتب ويحرض ويجند ويبعث الرسل للعشائر والزعماء والوجهاء والعلماء للتحرك حتى أبرق إلى عدد من الوفود والعلماء والشخصيات بضرورة المجئ إلى العمارة وجاء بعضهم بعد اثنى عشر يوما ثم عزل جاويد وعين سليمان عسكرى بيك قائدا أولا مكانه وجاء لزيارة الحيدرى والتفاوض معه فتحرك الحيدرى إلى مقر القيادة العسكرية وعرضوا عليه المؤن والأموال فرفضها كما بعث له الإنكليز أموالا عدة مرات فرفضها ورد أصحابها ردا عنيفا. عند استقرار الوضع له بعث برسائل إلى الكثيرين يشعرهم بسيطرته والأمان لمن يأتى ففكر بعض العلماء بالمجئ عند الإطمئنان من الرسائل. الحيدرى توجه إلى قلب المعركة وهو القرنة مع مجموعة كبيرة، وأما الجناح الأيمن وهو الشعيبة وفيه الحبوبى وباقر حيدر والحكيم حيث كان للحبوبى دور متميز، أما الجناح الأيسر وهو الحويزة وفيه مهدى الخالصى وجعفر راضى وعيسى كمال الدين ومحمد اليزدى. كان القتال فى القرنة قريبا من الحيدرى وقرر النزول والمقاتلة المباشرة رغم رفض الكثير كونه القائد والزعيم فركب السفينة حتى رست عند حريبة وحصل قتال مباشر وتقلد سيفه والقذائف والنيران حواليهم وكان القتال عنيفا وتحطمت باخرة الإنكليز وتكبدوا خسائر كبيرة وغرق مركبهم الكبير وقتل منهم ما يربو على الألفين بينما من العراقيين أقل بكثير لم يبلغوا المائة رغم ثقب سفينة الحيدرى وأوشكت على الغرق واشتعلت فيها النيران وتسمى بمحاربة الروطة يوم الأربعاء 5 ربيع الأول 1333 هجرية وأصيب فيها القائد العثمانى سليمان عسكرى بيك نقل على إثرها إلى مستشفى فى بغداد ودخل عليه عالم دين معروف من وعاظ السلاطين فقال سليمان (أنت تدعى عالما وتقبض منا الأموال بينما مهدى الحيدرى على شيخوخته وعظمته مرجع يقاتل فى الجبهة ويرفض منا مالا أو معونة) وبقى الحيدرى أشهرا طويلة فى قلب الساحة والمعركة وحصلت معارك وجولات فيها مآسى منها انسحاب العثمانيين من الشعيبة حتى انتحر القائد العسكرى سليمان بيك لذلك، حل محله نور الدين بيك، وأوشك الحيدرى على الغرق حينا ثم أنقذه أولاده كما أوشك شيخ الشريعة على الغرق والموت وأنقذه نجل الحيدرى راضى لذلك سمى راضى الحيدرى ب(محيي الشريعة) لإنقاذه. وقد قطع مهدى الحيدرى طرقا وحلة ووعرة وصحارى لمسافات طويلة كما رابط فى الكوت أربعة أشهر ومعه مهدى الخالصى وعبد الرزاق الحلو لأن مركز الجيش عند شرق الموت ثم الحلة. أخيرابعد سنة من ذلك رجع الحيدرى إلى الكاظمية فى 28 ذى الحجة عام 1333 وجلس الناس أياما فى استقباله والحفاوة به والوفود تأتيه من كل أنحاء العراق حيث كانت رحلته سنة كاملة وكان متواضعا لايحب التمايز على الآخرين ولم يجمع مالا له أو لأرحامه بل حياتهم بسيطة زاهدة يشارك البسطاء مأكلهم وملبسهم ومعاشهم وكان اجتماعيا غير منعزل عن الناس يسهل الوصول إليه والحديث المباشر بلا حواجز ولا تكلف ولم يترك لأولاده من المال شيئا مذكورا. وكانت له مواقف مشهودة فى جمع شمل الناس رافضا الطائفية فقد جمع الشيعة تحت مظلة العثمانيين السنة لعدم إيمانه بالتفرقة بين الطائفتين وهو الذى نظر له وكتب فيه وحاضر فيه كتشيع عربى علوى أصيل مبنى على المحبة والسلام والوئام لا البغضاء والحقد والعدوان للتشيع الصفوى الدخيل كما سماه. حاول الإنكليز الإتصال به واستمالته وإغرائه بالأموال وغيرها فرفض رفضا قاطعا كما رفض طلبهم بدعمه ضد العثمانيين السنة وهو يسميهم إخواننا وأحبابنا فى الدنيا والآخرة وهو ما أغضب بعض الفرس عليه عندما مدح الخلفاء الراشدين معتقدا العلاقة الحسنة بينهم وكون الإمام على الوزير لهم مستدلا بقول الخليفة الثانى (لولا على لهلك عمر) وغيره من الأدلة المحكمة الرصينة.
وكان له الدور الرئيس فى وأد فتنة كربلاء بين الحكومة العثمانية ومشايخ كربلاء فسافر إلى كربلاء 27 رجب 1334 واستقبله الناس غستقبالا لامثيل له وخرجت المدينة عن بكرة أبيها وحل الأمان والإستقرار بعد الفتنة والقتل وطلب عزل القائد العسكرى وإلقاء الناس السلاح وكان له ما أراد بعد أن قضى شهرا ونصف الشهر فيها حالا لمشاكلها وأفرادها حيث كان يستقبلهم يوميا ويقضى حوائجهم بما استطاع لذلك سبيلا خصوصا العشائر والأزواج والأرحام والأصدقاء حتى قال الشهرستانى عنه (قام بأعمال إصلاحية جمة تفوق حد الإحصاء منها فتنة كربلاء عندما كتب له العلماء والأشراف فجاء ملبيا رغم مرضه فاستقبله الناس بجموعهم على اختلاف طبقاتهم ولم يرحل حتى جمع الكلمة وأصلح بين الفرقاء وله أعمال إصلاحية كثيرة جدا غيرها).
وعندما أذكر دور مهدى الحيدرى زعيم للثورة موحدا للعراقيين بشتى مشاربهم بعيدا عن الطائفية البغيضة فلا يعنى إنكار دور غيره سواء من العرب كالخالصى مثلا أو الفرس كالشيرازى مثلا وقد كتب عنه الكثير جدا، ولكنه ملء فراغ تعمد الفرس وأتباعهم تجاهله لغاية فى نفس يعقوب فإنها شنشنة أعرفها من أخزم، وإن كنت أعتقد أيضا للتاريخ أن الحركة وثورة العشرين مرت بمجموعة من الأخطاء التى تحتاج إلى تحليل ونقد كتبت عنه مرارا فهى ليست ثورة مثالية فلها ظروفها وأوضاعها والفهم الخاص لأصحابها وفق سياقاتها وشرائطها كبقية الثورات فضلا أن رجالها لم يعرفوا استثمارها جيدا وتحقيق نتائج حقيقية ذات رؤى صائبة واسترتيجيات محددة وآليات عملية واضحة.
مهدى الحيدرى وثورة العشرين – نبيل الحيدري
207
previous post