منظومة القيم وواقع الفساد في العراق ( الحلقة الرابعة) – الدكتور طالب الرماحي

by admin
0 comment 1.4K views

من خلال دراستنا للتاريخ البشري ، وطبيعة الصراع بين الشعوب والأنظمة المستبدة ، نجد أن الشعوب التي استطاعت أن تتحرر من قيود تلك الأنظمة هي فقط الشعوب التي نجحت في إحداث نقلة نوعية في عقول الناس ، ومسح الثوابت السلبية فيها أو حسرها أو التقليل من أثرها في الدفاع أو الصمت عن الواقع الفاسد السائد ، ويمكن ذلك من خلال تهيئة العقل لتلقي الأفكار التنويرية التي يمكن توجيهها لإحداث التغيرات اللازمة لإنقاذ الأمة .

هذا ما فعلته الشعوب الأوربية في عصر التنوير ، فقد تمكنت المؤسسات الفكرية التي يقودها الكثير من المفكرين المخلصين إلى عزل عقول الناس عن الكنيسة والأفكار الدينية المتخلفة ، ومما سهل الأمر في ذلك الوقت على قادة التغيير، هو أن الكنيسة كانت تعبث في عقول العامة من خلال التشريعات الكنسية ، وتوظف تلك التشريعات في ترسيخ وجودها السياسي في الحكم ، ومما سهل المهمة هو عدم وجود تنظيمات سياسية بالشكل الذي نراه اليوم في عصرنا الحاضر ، وهذا يعني أن عملية التغيير في العراق سوف تكون أكثر تعقيدا لو قارنا ظروفنا السياسية والاجتماعية بما كان سائدا في المجتمعات الأوربية أنذاك ، وبذلك يترتب على قادة التغيير أن يواجهوا أكثر من جبهة لإحداث ذلك التغيير وهي : الجهل المتفشي في الأمة ، الأحزاب السياسية ، المؤسسات الدينية ، التحديات الخارجية ، التحديات المادية .

الجهل المتفشي في االعراق : وسوف أحاول في هذه الحلقة أن أبين فقط طبيعة هذا الجهل والبيئة التي نشأ فيها أو التي حافظت أو تحافظ عليه ، على أن نتطرق لرؤيتنا في كيفية معالجته في الحلقات القادمة ، فلا بد من معرفة حيثيات المشكلة قبل التفكير في إيجاد الحلول المناسبة لها . وكما اشرت في بداية الحلقة أن فشل الأمة في إحداث نقلة في الوعي ، يعني عدم قدرتها على الأنفلات من واقعها الفاسد المتخلف ، وهذا يعني أن على الثلة المخلصة في العراق أن تولي اهتماما كبيرا واستثنائياً ، وأن توفر أحدث الوسائل المتاحة وأبرع الأدوات لدخول المعركة مع الجهل ، لأن الخصم الرئيسي في هذه المعركة هو ليس ( المفاهيم الخطيرة ) التي ترسخت في عقول غالبية الشعب وحسب ، وأنما الأطراف المتنفذة ذات القدرات المادية (واللوجستية ) الهائلة ، التي تعمل على الحفاظ على مستوى الإدراك المتدني وتثبيت مفاهيمه السلبية ، وخيبة أمل وشعور بالإحباط واليأس ، ولتدفع بذلك كله بعيدا عن خطوط التماس مع ( المصلحين ) ، لأن تلك الأطراف لها أدواتها المختلفة ذات القدرات العالية التي يهمها إبقاء العقلية العراقية على ما هي عليه من السلبية التي ترفض إحداث التغييرات أو التشكيك بها ، لأن إخراج تلك العقول من ( الجهل ) يتبعه خسارة تلك الأطراف مواقعها السيادية وامتيازاتها الدنيوية .

وحزب الدعوة الحاكم والقوى والشخصيات المتحالفة معه ، ورثت عن النظام البعثي السابق بيئة إجتماعية متخلفة وعقل جمعي عملت على توظيفه في خلق شرعية دينية مذهبية ، وشرعية سياسية معتمدة على ديمقراطية ( مشوهة ) لا تمتلك الحد الأدنى من معالم النظم الديمقراطية في الدول المتقدمة ، هذه الشرعية الدينية والسياسية ، عمل حزب الدعوة وحلفاؤه على الحفاظ عليها حاضرة في عقل الإنسان البسيط – مع الفشل الذريع في إدارة الدولة – من خلال تعميق الخلافات المذهبية والسياسية مع الأطراف الأخرى ، بالشكل الذي يدخل الكثير من الهواجس ( والأوهام ) بإمكانية عودة السياسيين البعثيين للحكم ، في حالة غياب الرموز الحاكمة ، وخاصة أن ذاكرة البسطاء الذين يشكلون السواد الأعظم من الشعب لم تزل تحتفظ بكثير من مشاهد الظلم والبؤس عن النظام السابق .

وتقع الأحزاب السياسية الحاكمة في العراق على رأس قائمة الجهات التي لا يسعدها حصول نقلة نوعية في العقل العراقي أو عودة القيم ومنظومتها الإخلاقية ، وهي تعمل جاهدة على أكثر من صعيد للوقوف إلى جانب تخلف العقل ، ونستطيع أن نجمل وسائلهم بما يلي :

أولاً : العمل بكل الأمكانيات المتاحة بعدم السماح بوجود تحالف للمفكرين والنخب المخلصة والتي تمتلك القابليات على خلق أفكار تنويرية تنسجم مع تطلعات الشعب في الخلاص من ربقة التخلف المادي والأخلاقي ، ومن أجل تحقيق هذا الهدف فقد عمل حزب الدعوة والقوى المتحالفة معه على عزل الكفاءات الفكرية المخلصة سواء في داخل العراق وخارجه ، من خلال حرمانها من المشاركة في شغل الوظائف المهمة ، ولإبعادها عن الانتعاش المادي الذي يخشون التحرك به نحو الإصلاح ، فأسرعت حكومة المالكي إلى حشو وزاراتها إما بالموالين أو الفاشلين أو البعثيين للاسفادة من خبراتهم السابقة في إدارة الدولة ، كما حاربت الحكومة الطاقات الفكرية العاملة المستقلة من خلال إحكام طوق من الحصار المادي ، ونستطيع أن نتلمس ذلك من خلال امتناع الحكومة من تقديم أي مساعدات مادية للعاملين الاجتماعيين أو منظمات المجتمع المدني المستقلة وغير الموالية ، وترحيل كل تلك المساعدات للمنظمات والمؤسسات والشخصيات الإعلامية الموالية والتي تسبح بحمد الحزب وتعمل على تعضيد مسيرته ، ولو أردنا أن نعمل مسحاً لذلك لوجدنا من النتائج ما يشيب له الرأس من الأموال التي تحرق بهذا الاتجاه .

لقد شخصت الأحزاب الحاكمة خطورة تشكيل أي تكتل فكري مخلص يعمل على صياغة حلول تنويرية ، لأنها تدرك جيدا إن انتقال عدوى تلك الأفكار من الكتلة إلى قطاعات واسعة من الشعب  بشكل تلقائي سوف يعمل على إضعافها وتهديد وجودها بشكل كامل ، وخاصة إذا كانت ثمة توجهات شعبية لوقف هيمنة الحزب وحلفائه من خلال إجراءات أكثر أثرا كالعصيان المدني .

ثانياً : توظيف الأموال المسروقة من خزينة الدولة بطرق مختلفة في تحقيق مكاسب انتخابية وسياسية ، وأخطر الاجراءات التي درج حزب الدعوة العمل عليها وما زال يعمل بها هو تشكيل ( مجالس الإسناد العشائري ) وهي عبارة عن مكاتب كثيرة تتوزع في المدن والمناطق الريفية حسب الكثافة السكانية ، يعمل في تلك المكاتب بشكل دائم اشخاص متمرسون في العلاقات الاجتماعية لإقناع المواطنين البسطاء بانتخاب مرشحي حزب الدعوة أو الترويج له مقابل عطاءات مالية معينة ، وينفق الحزب على هذه المكاتب أموالاً طائلة شهرياً وبشكل مستمر ، لكن الأموال التي تنفقها هذه المكاتب في أوقات الانتخابات تكون ( ضخمة ) ، وهذا سر نجاح الحزب في الانتخابات التشريعية ومجالس المحافظات والتي كان فيها ذات نفوذ سياسي هيأ له توفير الأموال اللازمة لتُصرف في شراء ذمم البسطاء والفقراء والمعوزين ، فيما تراجعت حظوظ المجلس الأعلى الذي لم يتمتع بمثل ذلك النفوذ المالي . ونعتقد أن غياب الوعي الديني والسياسي وتقاعس المؤسسات الدينية ، في العمل بمسؤلياتها في توعية الأمة ، ترك الباب مفتوحا للأحزاب في ممارسة هذه اللعبة الخطيرة  . علما أن شراء الذمم بأموال الأمة المسروقة لم تكن الطريقة الوحيدة ، وأنما ثمة أساليب أخرى مشابهة عمد حزب الدعوة العمل بها لتحقيق نفس الهدف منها  منح الوظائف المدنية والعسكرية لفئات محددة موالية ، الوعود بمنح الكثير من الامتيازات كقطع الأراضي ، توزيع الأسلحة على بعض العشائر والأفراد ، هذه الأساليب الأخيرة مع أنها تخلق تمايزاً طبقياً خطيراً ، وتفضيل فئة معينة على فئات أخرى تبقى محرومة لعفتها ، أو لمعرفتها بحقيقة اللعبة فتنأى بعيدا وتفضل الفقر على الدخول في عملية لا أخلاقية ، فإنها تشكل خرقا فاضحا للدستور وللقوانين وللأعراف الدينية والإنسانية ، ومع استمرارها سوف يكون لها أثر تربوي ربما يتحول إلى ظاهرة لايمكن معالجتها مع تقادم الزمن ، وهذا ما يسعى  إليه حزب الدعوة ، وخطورة الأمر أنه ربما ينجح في ذلك إذا لم تسارع الأمة إلى القيام بإصلاحات سريعة .

ثالثاً : تحالف الحزب الحاكم مع قوى خارجية لضمان بقائه في السلطة ، وهذا أخطر ما أقدمت وتقدم عليه الرموز الحاكمة وأحزابها ، وهي تشترك جميعا في ذلك ، لكن خطورة حزب الدعوة كون أثره على الأغلبية الشيعية في العراق كبيرا بسبب استحواذه على قضيتين مهمتين وهما صنع القرار وامتلاك المال .

فلكل أمة أهدافها ومصالحها الخاصة بها ، ويتميز الشعب العراقي والأكثرية الشيعية أن عليها مهام كبيرة يجب إنجازها ، بسبب التخلف الكبير الذي ورثته عن الحقب السياسية الماضية ، وأن أي أمة إذا لم يكن ثمة تظافر بين أبنائها جميعاً في القيام بمهام الإصلاح ، وتوظيف دقيق لقدراتها المختلفة باتجاه ذلك الإصلاح ، فسوف لن يكون في وسعها أن تخطو إلى الأمام . والأمة التي تعتمد في تطورها على الأمم الأخرى هي أمة خائبة ، ولا تمتلك ثقة كاملة بقدراتها ، لأن الأمم الأخرى ومهما امتلكنا معها من الروابط التاريخية أو المذهبية غير مستعدة أن تضحي بأي قدر من مصالحها للغير ، ولدينا تجارب كثيرة مع الشعوب التي تحيط بنا ، واستخلصنا من تلك التجارب أن المواقف الطائفية لبعضها هو الغالب في علاقتها معنا ، كما هو عند أغلب الدول العربية ، فيما تحكمت المواقف القومية والعنصرية عند البعض الآخر ، مثلما رأيناه ولمسناه عند علاقاتنا التاريخية مع إيران ، والشعوب أوالأمم أشبه  ( بالفرد ) يحب ذاته ولا يضحي بلا مقابل ، ولطالما تحكمت به الأنانية ، ومن منا يحب أن يكون غيره أفضل منه  في المال أو الغنى أو المعرفة ؟ .

خوف الأحزاب السياسية الحاكمة في العراق وهلعها من فشلها في تحقيق أهدافها الحزبية ومستقبل رموزها السياسية ، وخاصة تلك التي تورطت في عمليات سلب ونهب للمال العام ، جعلها تتمسك بأي جهة خارجية تحقق لها أهدافها ، فأسرعت أغلب الأحزاب والتكتلات السنية للدول الطائفية ، وكلنا رأينا موقف دول الخليج الداعم للإرهاب ، وموقف تركيا الداعم للمجرم طارق الهاشمي ، فيما اسرع حزب الدعوة للاستفادة من رغبة أمريكا في وجود حكومة تمسك بزمام الأمور  وتسيرها ، بغض النظر عن نجاحها أو فشلها في تحقيق أهداف الشعب العراقي في الداخل ، فبنى علاقات وطيدة مع الإدارة الأمريكية وأبرم معها الكثير من الاتفاقيات المعلنة وغير المعلنة مقابل دعمها لسياسة حزب الدعوة في بقائه في السلطة ، ولم يكتف حزب الدعوة بدعم أمريكا له وأنما راح يعزز ذلك الدعم بعلاقات أخرى مع إيران لاتقل متانة عن علاقته مع الإدارة الأمريكية .

وخطورة تلكما العلاقتين ، وإن انطوتا على الكثير من الفوائد المادية والسياسية لأصحاب العلاقة ، إلا أن الخطر الكبير الذي تنطوي عليه ، هي أن الشعب العراقي سوف لن يكون في وسعه أن يتخلص من قيود الكتل الحاكمة ، ومنها حزب الدعوة بالذات ، فالدول الأخرى لايهمها مصلحة الشعب العراقي ، وعندما تجد أن مصالحها في بقاء حزب الدعوة فسوف لن تدخر جهدا في مساندته بكل ما تمتلك من قوة ، وفشل حزب الدعوة في تحقيق الحد الأدنى من تطلعات الشعب العراقي ، وسرقته للمال العام والتستر على أغلب السراق لعلاقته المباشرة معهم ، كل ذلك لايعنى الشعوب الأخرى في شيء ، نعم يعنى شعبنا العراقي المظلوم  وحسب ، ولذا فإن مسؤولية الإصلاح تقع أولاً وأخيرا على النخب الواعية من أبنائه  .

 

You may also like

Leave a Comment

About The New Iraq

( العراق الجديد) صحيفة ألكترونية تصدر عن المركز الإعلامي العراقي في لندن حرة غيرمرتبطة بأي جهة أوتكتل سياسي تهدف الى خدمة أبناء شعبنا العراقي وتدافع عن مصالحه السياسية والثقافية والإجتماعية

All Right Reserved. 2024 – TheNewIraq.com – Media & Studies Centre