من خلال دراستنا للتاريخ البشري ، وطبيعة الصراع بين الشعوب والأنظمة المستبدة ، نجد أن الشعوب التي استطاعت أن تتحرر من قيود تلك الأنظمة هي فقط الشعوب التي نجحت في إحداث نقلة نوعية في عقول الناس ، ومسح الثوابت السلبية فيها أو حسرها أو التقليل من أثرها في الدفاع أو الصمت عن الواقع الفاسد السائد ، ويمكن ذلك من خلال تهيئة العقل لتلقي الأفكار التنويرية التي يمكن توجيهها لإحداث التغيرات اللازمة لإنقاذ الأمة .
هذا ما فعلته الشعوب الأوربية في عصر التنوير ، فقد تمكنت المؤسسات الفكرية التي يقودها الكثير من المفكرين المخلصين إلى عزل عقول الناس عن الكنيسة والأفكار الدينية المتخلفة ، ومما سهل الأمر في ذلك الوقت على قادة التغيير، هو أن الكنيسة كانت تعبث في عقول العامة من خلال التشريعات الكنسية ، وتوظف تلك التشريعات في ترسيخ وجودها السياسي في الحكم ، ومما سهل المهمة هو عدم وجود تنظيمات سياسية بالشكل الذي نراه اليوم في عصرنا الحاضر ، وهذا يعني أن عملية التغيير في العراق سوف تكون أكثر تعقيدا لو قارنا ظروفنا السياسية والاجتماعية بما كان سائدا في المجتمعات الأوربية أنذاك ، وبذلك يترتب على قادة التغيير أن يواجهوا أكثر من جبهة لإحداث ذلك التغيير وهي : الجهل المتفشي في الأمة ، الأحزاب السياسية ، المؤسسات الدينية ، التحديات الخارجية ، التحديات المادية .
الجهل المتفشي في االعراق : وسوف أحاول في هذه الحلقة أن أبين فقط طبيعة هذا الجهل والبيئة التي نشأ فيها أو التي حافظت أو تحافظ عليه ، على أن نتطرق لرؤيتنا في كيفية معالجته في الحلقات القادمة ، فلا بد من معرفة حيثيات المشكلة قبل التفكير في إيجاد الحلول المناسبة لها . وكما اشرت في بداية الحلقة أن فشل الأمة في إحداث نقلة في الوعي ، يعني عدم قدرتها على الأنفلات من واقعها الفاسد المتخلف ، وهذا يعني أن على الثلة المخلصة في العراق أن تولي اهتماما كبيرا واستثنائياً ، وأن توفر أحدث الوسائل المتاحة وأبرع الأدوات لدخول المعركة مع الجهل ، لأن الخصم الرئيسي في هذه المعركة هو ليس ( المفاهيم الخطيرة ) التي ترسخت في عقول غالبية الشعب وحسب ، وأنما الأطراف المتنفذة ذات القدرات المادية (واللوجستية ) الهائلة ، التي تعمل على الحفاظ على مستوى الإدراك المتدني وتثبيت مفاهيمه السلبية ، وخيبة أمل وشعور بالإحباط واليأس ، ولتدفع بذلك كله بعيدا عن خطوط التماس مع ( المصلحين ) ، لأن تلك الأطراف لها أدواتها المختلفة ذات القدرات العالية التي يهمها إبقاء العقلية العراقية على ما هي عليه من السلبية التي ترفض إحداث التغييرات أو التشكيك بها ، لأن إخراج تلك العقول من ( الجهل ) يتبعه خسارة تلك الأطراف مواقعها السيادية وامتيازاتها الدنيوية .
وحزب الدعوة الحاكم والقوى والشخصيات المتحالفة معه ، ورثت عن النظام البعثي السابق بيئة إجتماعية متخلفة وعقل جمعي عملت على توظيفه في خلق شرعية دينية مذهبية ، وشرعية سياسية معتمدة على ديمقراطية ( مشوهة ) لا تمتلك الحد الأدنى من معالم النظم الديمقراطية في الدول المتقدمة ، هذه الشرعية الدينية والسياسية ، عمل حزب الدعوة وحلفاؤه على الحفاظ عليها حاضرة في عقل الإنسان البسيط – مع الفشل الذريع في إدارة الدولة – من خلال تعميق الخلافات المذهبية والسياسية مع الأطراف الأخرى ، بالشكل الذي يدخل الكثير من الهواجس ( والأوهام ) بإمكانية عودة السياسيين البعثيين للحكم ، في حالة غياب الرموز الحاكمة ، وخاصة أن ذاكرة البسطاء الذين يشكلون السواد الأعظم من الشعب لم تزل تحتفظ بكثير من مشاهد الظلم والبؤس عن النظام السابق .
وتقع الأحزاب السياسية الحاكمة في العراق على رأس قائمة الجهات التي لا يسعدها حصول نقلة نوعية في العقل العراقي أو عودة القيم ومنظومتها الإخلاقية ، وهي تعمل جاهدة على أكثر من صعيد للوقوف إلى جانب تخلف العقل ، ونستطيع أن نجمل وسائلهم بما يلي :
أولاً : العمل بكل الأمكانيات المتاحة بعدم السماح بوجود تحالف للمفكرين والنخب المخلصة والتي تمتلك القابليات على خلق أفكار تنويرية تنسجم مع تطلعات الشعب في الخلاص من ربقة التخلف المادي والأخلاقي ، ومن أجل تحقيق هذا الهدف فقد عمل حزب الدعوة والقوى المتحالفة معه على عزل الكفاءات الفكرية المخلصة سواء في داخل العراق وخارجه ، من خلال حرمانها من المشاركة في شغل الوظائف المهمة ، ولإبعادها عن الانتعاش المادي الذي يخشون التحرك به نحو الإصلاح ، فأسرعت حكومة المالكي إلى حشو وزاراتها إما بالموالين أو الفاشلين أو البعثيين للاسفادة من خبراتهم السابقة في إدارة الدولة ، كما حاربت الحكومة الطاقات الفكرية العاملة المستقلة من خلال إحكام طوق من الحصار المادي ، ونستطيع أن نتلمس ذلك من خلال امتناع الحكومة من تقديم أي مساعدات مادية للعاملين الاجتماعيين أو منظمات المجتمع المدني المستقلة وغير الموالية ، وترحيل كل تلك المساعدات للمنظمات والمؤسسات والشخصيات الإعلامية الموالية والتي تسبح بحمد الحزب وتعمل على تعضيد مسيرته ، ولو أردنا أن نعمل مسحاً لذلك لوجدنا من النتائج ما يشيب له الرأس من الأموال التي تحرق بهذا الاتجاه .
لقد شخصت الأحزاب الحاكمة خطورة تشكيل أي تكتل فكري مخلص يعمل على صياغة حلول تنويرية ، لأنها تدرك جيدا إن انتقال عدوى تلك الأفكار من الكتلة إلى قطاعات واسعة من الشعب بشكل تلقائي سوف يعمل على إضعافها وتهديد وجودها بشكل كامل ، وخاصة إذا كانت ثمة توجهات شعبية لوقف هيمنة الحزب وحلفائه من خلال إجراءات أكثر أثرا كالعصيان المدني .
ثانياً : توظيف الأموال المسروقة من خزينة الدولة بطرق مختلفة في تحقيق مكاسب انتخابية وسياسية ، وأخطر الاجراءات التي درج حزب الدعوة العمل عليها وما زال يعمل بها هو تشكيل ( مجالس الإسناد العشائري ) وهي عبارة عن مكاتب كثيرة تتوزع في المدن والمناطق الريفية حسب الكثافة السكانية ، يعمل في تلك المكاتب بشكل دائم اشخاص متمرسون في العلاقات الاجتماعية لإقناع المواطنين البسطاء بانتخاب مرشحي حزب الدعوة أو الترويج له مقابل عطاءات مالية معينة ، وينفق الحزب على هذه المكاتب أموالاً طائلة شهرياً وبشكل مستمر ، لكن الأموال التي تنفقها هذه المكاتب في أوقات الانتخابات تكون ( ضخمة ) ، وهذا سر نجاح الحزب في الانتخابات التشريعية ومجالس المحافظات والتي كان فيها ذات نفوذ سياسي هيأ له توفير الأموال اللازمة لتُصرف في شراء ذمم البسطاء والفقراء والمعوزين ، فيما تراجعت حظوظ المجلس الأعلى الذي لم يتمتع بمثل ذلك النفوذ المالي . ونعتقد أن غياب الوعي الديني والسياسي وتقاعس المؤسسات الدينية ، في العمل بمسؤلياتها في توعية الأمة ، ترك الباب مفتوحا للأحزاب في ممارسة هذه اللعبة الخطيرة . علما أن شراء الذمم بأموال الأمة المسروقة لم تكن الطريقة الوحيدة ، وأنما ثمة أساليب أخرى مشابهة عمد حزب الدعوة العمل بها لتحقيق نفس الهدف منها منح الوظائف المدنية والعسكرية لفئات محددة موالية ، الوعود بمنح الكثير من الامتيازات كقطع الأراضي ، توزيع الأسلحة على بعض العشائر والأفراد ، هذه الأساليب الأخيرة مع أنها تخلق تمايزاً طبقياً خطيراً ، وتفضيل فئة معينة على فئات أخرى تبقى محرومة لعفتها ، أو لمعرفتها بحقيقة اللعبة فتنأى بعيدا وتفضل الفقر على الدخول في عملية لا أخلاقية ، فإنها تشكل خرقا فاضحا للدستور وللقوانين وللأعراف الدينية والإنسانية ، ومع استمرارها سوف يكون لها أثر تربوي ربما يتحول إلى ظاهرة لايمكن معالجتها مع تقادم الزمن ، وهذا ما يسعى إليه حزب الدعوة ، وخطورة الأمر أنه ربما ينجح في ذلك إذا لم تسارع الأمة إلى القيام بإصلاحات سريعة .
ثالثاً : تحالف الحزب الحاكم مع قوى خارجية لضمان بقائه في السلطة ، وهذا أخطر ما أقدمت وتقدم عليه الرموز الحاكمة وأحزابها ، وهي تشترك جميعا في ذلك ، لكن خطورة حزب الدعوة كون أثره على الأغلبية الشيعية في العراق كبيرا بسبب استحواذه على قضيتين مهمتين وهما صنع القرار وامتلاك المال .
فلكل أمة أهدافها ومصالحها الخاصة بها ، ويتميز الشعب العراقي والأكثرية الشيعية أن عليها مهام كبيرة يجب إنجازها ، بسبب التخلف الكبير الذي ورثته عن الحقب السياسية الماضية ، وأن أي أمة إذا لم يكن ثمة تظافر بين أبنائها جميعاً في القيام بمهام الإصلاح ، وتوظيف دقيق لقدراتها المختلفة باتجاه ذلك الإصلاح ، فسوف لن يكون في وسعها أن تخطو إلى الأمام . والأمة التي تعتمد في تطورها على الأمم الأخرى هي أمة خائبة ، ولا تمتلك ثقة كاملة بقدراتها ، لأن الأمم الأخرى ومهما امتلكنا معها من الروابط التاريخية أو المذهبية غير مستعدة أن تضحي بأي قدر من مصالحها للغير ، ولدينا تجارب كثيرة مع الشعوب التي تحيط بنا ، واستخلصنا من تلك التجارب أن المواقف الطائفية لبعضها هو الغالب في علاقتها معنا ، كما هو عند أغلب الدول العربية ، فيما تحكمت المواقف القومية والعنصرية عند البعض الآخر ، مثلما رأيناه ولمسناه عند علاقاتنا التاريخية مع إيران ، والشعوب أوالأمم أشبه ( بالفرد ) يحب ذاته ولا يضحي بلا مقابل ، ولطالما تحكمت به الأنانية ، ومن منا يحب أن يكون غيره أفضل منه في المال أو الغنى أو المعرفة ؟ .
خوف الأحزاب السياسية الحاكمة في العراق وهلعها من فشلها في تحقيق أهدافها الحزبية ومستقبل رموزها السياسية ، وخاصة تلك التي تورطت في عمليات سلب ونهب للمال العام ، جعلها تتمسك بأي جهة خارجية تحقق لها أهدافها ، فأسرعت أغلب الأحزاب والتكتلات السنية للدول الطائفية ، وكلنا رأينا موقف دول الخليج الداعم للإرهاب ، وموقف تركيا الداعم للمجرم طارق الهاشمي ، فيما اسرع حزب الدعوة للاستفادة من رغبة أمريكا في وجود حكومة تمسك بزمام الأمور وتسيرها ، بغض النظر عن نجاحها أو فشلها في تحقيق أهداف الشعب العراقي في الداخل ، فبنى علاقات وطيدة مع الإدارة الأمريكية وأبرم معها الكثير من الاتفاقيات المعلنة وغير المعلنة مقابل دعمها لسياسة حزب الدعوة في بقائه في السلطة ، ولم يكتف حزب الدعوة بدعم أمريكا له وأنما راح يعزز ذلك الدعم بعلاقات أخرى مع إيران لاتقل متانة عن علاقته مع الإدارة الأمريكية .
وخطورة تلكما العلاقتين ، وإن انطوتا على الكثير من الفوائد المادية والسياسية لأصحاب العلاقة ، إلا أن الخطر الكبير الذي تنطوي عليه ، هي أن الشعب العراقي سوف لن يكون في وسعه أن يتخلص من قيود الكتل الحاكمة ، ومنها حزب الدعوة بالذات ، فالدول الأخرى لايهمها مصلحة الشعب العراقي ، وعندما تجد أن مصالحها في بقاء حزب الدعوة فسوف لن تدخر جهدا في مساندته بكل ما تمتلك من قوة ، وفشل حزب الدعوة في تحقيق الحد الأدنى من تطلعات الشعب العراقي ، وسرقته للمال العام والتستر على أغلب السراق لعلاقته المباشرة معهم ، كل ذلك لايعنى الشعوب الأخرى في شيء ، نعم يعنى شعبنا العراقي المظلوم وحسب ، ولذا فإن مسؤولية الإصلاح تقع أولاً وأخيرا على النخب الواعية من أبنائه .