كنت قد تساءلت في هذه الصفحة، أسبوعين اثنين بعد انتفاضة 25 يناير، عن الشعارات الغائبة في ميدان التحرير. قصدت بذلك التدليل على خفوت أصوات كان المعتقد أنها مرتفعة، وضمور آيديولوجيات كان المتوهم أنها تملأ من الوعي العربي حيزا غير يسير. تبين لي، وقد ذكرت ذلك في حينه، أن كل الشعارات التي تمت إلى القومية العربية بصلة وإلى آيديولوجياتها لم تكن على الإطلاق واردة في خطاب ميدان التحرير، في حين أن وعيا عربيا عميقا وقويا كان يشع من ذلك الخطاب، شعور عارم بالانتماء إلى ثقافة واحدة والاشتراك في هموم واحدة. الشيء نفسه سجلته بالنسبة للشعارات التي تمت إلى السلفيات الجهادية على نحو أو آخر، وفي مقابل ذلك أبان ميدان التحرير عن شعور قوي بالانتساب إلى الإسلام، عقيدة وحضارة وصلاة الجماعة والجمع، خاصة، تجل واضح لذلك. الإسلام حاضر بقوة في الوعي العربي المعاصر وحضوره قوي فاعل، غير أنه يرفض فكر التطرف الذي يقود إلى الإرهاب. وتبين لي كذلك أن كل الشعارات المعهودة في القاموس الماركسي اللينيني (الصراع الطبقي، الإمبريالية، الثورة البروليتارية…) قد اختفت وتوارت بالكلية لتحل محلها شعارات المطالبة بالكرامة والعدالة الاجتماعية ومحاربة الفساد. وفي كلمة واحدة هناك توق إلى الحرية، وتطلع إلى تشييد صرح الدولة الحديثة التي يكون فيها للمواطن المجال مفتوحا لتحقيق الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. يصح الكلام إذن عن نوع من المصالحة مع السياسة، من حيث إنها اهتمام بالشأن العام، وإقبال على العيش المشترك السليم في دولة المؤسسات والقانون والمواطنة الحق، وبالتالي الدولة الحديثة على الحقيقة. هذه جملة قضايا أرى التذكير بها تمهيدا ضروريا للقول في الإسلام والدولة المدنية في عالمنا العربي.
أود، من جهة ثانية، أن أنبه إلى ظاهرة أخرى ترتبط بموضوع حديثنا، بطبيعة الأمر، إنها ظاهرة المجاهرة بالدولة المدنية في خطاب الكثير (إن لم نقل كل) من التيارات السياسية القائمة أو التي تطالب بالحق في الظهور في الساحة السياسية، من التي يصح القول عنها إنها تمت بصلة إلى «الإسلام السياسي». ذلك أن من الواضح لدى كل ملاحظ يتتبع حركية الانتفاض العربي في مصر، أساسا، أن هنالك إعلانات مستمرة عن إنشاء أحزاب أو تكتلات سياسية تدعو إلى الدولة المدنية، أو تجعل من الدولة المدنية شعارا لها وسبيلا إلى إقامة الدولة الحديثة في مصر اليوم.
التنبيهان اللذان ذكرت يسلمان إلى جوهر القضية موضوع حديثنا اليوم، قضية الإسلام والدولة المدنية. وأجدني في حاجة إلى استسماح القارئ الكريم في التذكير، في جمل قليلة، بل في خلاصات سريعة، بما انتهيت إليه من رأي في أحاديث سالفة. أولها أن الدولة المدنية هي النقيض المطلق للدولة الدينية أو للدولة التي يصح أن توصف بأنها كذلك. ثانيهما أن الدولة الدينية، على الحقيقة، هي تلك التي عرفتها المجتمعات الغربية في العصور الوسطى المسيحية، وهي التي تعبر عنها نظرية الثيوقراطية في عبارة، ونظرية الحق الإلهي أو الحق المقدس للملوك، وبالتالي النظرية السياسية التي تقول بوجود السلطة السياسية المطلقة، فلا شيء يحد من إطلاقها، والمقدسة، فهي كذلك لأن مصدرها يعلو على البشر. وثالث الخلاصات أن مفكري الإسلام لم يعرف منهم اقتراب من معاني هذه الدولة، والسبب بسيط وواضح، هو أن الدولة الثيوقراطية تتنافى مع الإسلام من جهتي العقيدة والشريعة معا. نعم، عرف الحكم السياسي في الإسلام من الاستبداد أصنافا شتى، تجلى فيها الحكم المطلق في أشد صوره قتامة في بعض الأحوال، بيد أن نظرية «الحق الإلهي» تظل غير مفكر فيها في الوعي الإسلامي، من حيث إن فيها إلغاء للعقيدة الإسلامية ذاتها. ورابع الخلاصات وآخرها هو أن الدولة المدنية نتاج تطور تاريخي، وصراع اجتماعي، وتحول معرفي، وبالتالي فهي ثمرة نقلة كيفية شاملة في كل من الوجود والوعي في الغرب الأوروبي، كان لا بد، من أجل تحققه، من حدوث سيرورة تاريخية اجتماعية سياسية معرفية تتضافر عناصرها.
ما أود قوله، في ضوء ما تقدم، أمران اثنان: أولهما أن انتفاء صفة الدولة الدينية عن الإسلام لا يعني البتة أن الدولة في الإسلام دولة مدنية بالضرورة، أو أن الدولة في الإسلام دولة مدنية في صلبها. ذلك أن هذا الاعتقاد فاسد، فهو خطأ شنيع يكذبه التاريخ، ويكذبه الفهم العلمي لكل من السياسة والوجود. وثانيهما: أن في الفكر السياسي في الإسلام، وفي فهم مفكريه للعلاقة القائمة بين الدين والسياسة، من جانب، والإنسان والدين، من جانب آخر، ما يكون معه الإسلام في حال هي أبعد ما تكون عن التعارض مع الدولة المدنية، من حيث هي دولة المؤسسات واستقلال السلطات عن بعضها البعض، ودولة القانون والمساواة بين المواطنين أمامه، والإسلام يقبل دولة المواطنة والمواطنين الأحرار الذين هم أمام القانون سواسية.
الخطاب الإسلامي السياسي المعاصر يشكو من الفقر النظري، ومن غياب المعرفة بكل من الفكر السياسي الإسلامي في عهود الازدهار الفكري، ومن الفكر السياسي الغربي في مراحل تشكله التي كان عنها ميلاد الدولة الحديثة، على النحو الذي تحد به هذه الدولة في الفقه الدستوري المعاصر، وتتضح معالمها في الفكر السياسي الحديث، وبالتالي الدولة المدنية على الحقيقة.
الحق أن الفكر العربي الإسلامي في عصر النهضة قد كان في حال من الوعي العالي بطبيعة كل من الفكر السياسي في الإسلام والفكر السياسي الغربي الحديث، متى كانت المقارنة مع الفكر الإسلامي السياسي المعاصر على النحو الذي تطالعنا به كتابات الإسلام السياسي، (أو ذاك الذي اعتدنا أن نصفه كذلك). إن هذا الفكر الأخير، أكثر من غيره من أصناف الفكر العربي الإسلامي المعاصر، في حاجة إلى إعادة نظر شاملة في قناعاته وطرائق نظره، حتى يكون في وسعه إدراك معنى «الدولة المدنية» التي يتحدث عنها. ربما كانت البداية الصحيحة هي إعادة قراءة النتاج النظري للحقبة المعاصرة، التي نتواضع على تسميتها «عصر النهضة». بل لنكن أقل مجاملة وأكثر صراحة فنقول: إن رموز «الإسلام السياسي» في حاجة أكيدة إلى اكتشاف فكر النهضة. أرى أن الحاجة، في الواقع، تكمن في قراءة الفكر العربي الإسلامي في عصر النهضة، من حيث إن تشابها عظيما لا يزال قائما بين حالنا في العصر المذكور وحالنا اليوم، من جهة التطلع إلى مجاوزة حال الظلم والاستبداد والتطلع إلى الخروج من وهدة التخلف عن ركب الإنسانية المتقدمة، (والتقدم أحد مفاهيم عصر النهضة)، والحاجة، من جهة ثانية، في اكتشاف الفكر السياسي الإسلامي في عصر العطاء الحضاري العظيم، وأخص سمات ذلك الفكر هي الإقبال على الآخر والانفتاح على «تجارب الأمم»، (وتكرارنا للعبارة متعمد). والحاجة، ثالثا وأخيرا، في تدبر المعاني البعيدة لهذه «الدولة المدنية» التي كثر الحديث عنها دون تبين لدلالتها على أرض الواقع في وجودنا العربي الإسلامي: وجود التعدد، والاختلاف، والمواطنة، وحقوق الإنسان. وجود لا يتنافى في شيء مع العمق الإسلامي. فوائد وعبر كلنا، لا شك في ذلك، في حاجة أكيدة إلى استحضارها واستلهام دروسها.
الدولة الإسلامية الممكنة اليوم هي الدولة المدنية الحق ذات المرجعية الإسلامية