في أواخر عام 2003 صدر كتاب له خصوصية عندي في الشأن العربي وتناولته بعض الأقلام في حينها، وعنوانه لافت هو «العرب في عيون يابانية»، شخصيا كتبت عنه في يناير (كانون الثاني) 2004، وقلت بالنص وقتها: «هذا بعض ما سرده نوبواكي نوتوهارا في كتابه، الذي ما إن فرغت من قراءته حتى خلت أنه من القراءة الضرورية لأي سياسي عربي، يريد أو يعتقد أن الإصلاح ما زال ممكنا في فضائنا العربي…». ولكن بدا أن رجائي ذاك ذهب أدراج الرياح.
العودة اليوم إلى ذلك الكتاب قد تكون مفيدة في تفسير – لمن له بصيرة – ما يحدث في أرجاء الفضاء العربي، الذي تنبأ به الكاتب الياباني، أو قُل حذر من وقوعه، قبل عقد كامل من الزمن.
شهادة نوبواكي نوتوهارا، الذي قضي قرابة أربعين عاما وهو يعيش مع وبين العرب، ويلاحظ سلبيات الثقافة العربية في البوادي والمدن، وقد أجاد العربية كأحد أبنائها، واطلع على الإنتاج الأدبي العربي، وترجم منه إلى اليابانية، هي أول شهادة يابانية – حسب علمي – تكتب عن العرب المعاصرين بلغتهم، وحسنا فعلت «دار الجمل» بنشر هذا الكتاب، ذي القطع المتوسط، الذي لا يتجاوز مائة وخمسين صفحة، ولكنها صفحات مليئة بالملاحظات الهامة، جاءت من عين يابانية محبة ولكن ناقدة. أهم ما في الكتاب هو المقارنة بين ما يقوم به العرب وما يتوقعه الياباني المعاصر. لقد كان الكاتب يقرأ في كتاب مفتوح.
يلاحظ الكاتب هذا التوتر غير الخفي في المدن العربية المكتظة بالسكان، وهو توتر في الشارع العربي، يعتقد الكاتب أنه ناتج من اضطهاد مزمن، فالناس يمشون في الشوارع وكأن عينا خفية تطاردهم، ووجوه جامدة وصامتة وطوابير طويلة، حتى في سيارات الأجرة يواجه الإنسان الاضطهاد، فالسائق يختار الراكب حسب المكان الذي يريد الذهاب إليه، ويرفض أن ينقل الشخص الذي لا يعجبه شكله، أو المكان الذي يقصده. وينتهي الكاتب بالملاحظة الثاقبة أن «الناس في المدن العربية ليسوا سعداء، وليسوا مرتاحين، الناس صامتون لا يتحدثون، ولكننا نسمع صرخة من خلال ذلك الصمت الخانق». تلك كانت الرسالة التي لم ينتبه إليها أحد!
يكتشف الناقد الياباني بعد ذلك أن هذا الجو من التوتر هو بسبب غياب العدالة الاجتماعية، ويضيف أن من حقه بعد كل هذه السنوات مع العرب أن يقول شيئا لهم.
غياب العدالة يعني غياب المبدأ الأساسي الذي يعتمد عليه الناس في علاقة بعضهم ببعض، لذلك «يكرر الناس في البلاد العربية قولهم إن كل شيء ممكن لأن القوانين السائدة غير مطبقة وغير محترمة» وانتقائية.
القانون لا يحمي الناس من الظلم، لأنه مخترق، ويأتي نوتوهارا على الكثير من الأحداث والوقائع، فالقمع هو «الشيء الوحيد الذي لا يحتاج إلى برهان في البلاد العربية»! كما يقرر، ومن مظاهر القمع الذي يستغرب لها الياباني المعاصر أن «الحاكم» يحكم مدى الحياة في الوقت الذي لا يتجاوز عمر رئيس الوزراء الياباني في الوظيفة بضع سنين، هكذا بالنص، وأن الصحف تمنع من بلد إلى بلد، وأن الكتب والمجلات تعرض على الرقابة.
مثل هذه المظاهر العربية العادية لا يتوقع الياباني أن يراها في حياته المعاصرة في بلاده. ثم يستطرد بالقول إن «من زار اليابان لا شك يعرف أن هناك سيارات بمكبرات صوت تقف على نواصي الشوارع تهاجم رئيس الوزراء والحزب الحاكم دون أن يتعرض لها أحد»، ولكن «السلطة والشخص في البلاد العربية شيء واحد»، وفي معظم البلاد العربية، يقول الكاتب إن «المعيار الوحيد لكرامة المواطن ووطنيته هو مقدار ولائه للحاكم، وهذا كله غريب علينا نحن اليابانيين في الوقت الحاضر».
يضرب مثلا في تاريخ اليابان الحديث، فإن السيد كاكويه تاناكا واحد من أقوى الشخصيات التي شغلت منصب رئيس وزراء، اعتقلته الشرطة من بيته، وذهب إلى السجن بالقبقاب الياباني، بعد أن اكتشفت الصحافة قضية «لوكهيد»! وكانت وقتها فضيحة فساد مالي وسياسي، في منتصف سبعينات القرن الماضي.
يعترف الكاتب أن اليابان في وقت ما كانت خاضعة لنوع من القمع، ولكنهم تخلصوا منه، وأصبح تاريخا، يقول: «أعتقد أن القمع هو داء عضال في المجتمع العربي، لذا فإن أي كاتب أو باحث يتحدث عن المجتمع العربي دون وعي هذه الحقيقة البسيطة الواضحة (الخضوع للقمع)، لا أعتبر حديثه مفيدا وجديا».
يقول الكاتب: «نتيجة القمع يحاول الناس أن يوحدوا آراءهم وملابسهم وبيوتهم، وتحت هذه الظروف تذوب استقلالية الفرد، ويغيب أيضا الوعي بالمسؤولية العامة. فالقمع يولد الخوف وينتج الاحترام الكاذب».
بسبب غياب العدالة تغيب المسؤولية العامة، فالحدائق والشوارع ومناهل المياه ووسائل النقل العامة يدمرها الناس اعتقادا منهم بأنهم يدمرون ممتلكات الحكومة لا ممتلكاتهم، وكذلك تغيب المسؤولية تجاه أفراد المجتمع «فالسجناء السياسيون ضحوا من أجل المجتمع ولكن المجتمع نفسه يضحي بأولئك الرجال الشجعان». الناس في البلاد العربية يتعاملون مع قضية السجين السياسي على أنها قضية فردية على أسرة السجين أن تواجه أعباءها!
يتساءل الياباني باستغراب: «أفهم أن تضحي السلطة بأفراد متميزين ومفكرين وأدباء وسياسيين وعلماء وفنانين، ولكن لماذا يضحي الشعب نفسه بأولئك الأفراد؟».
يقول الكاتب إن العربي يتناول أفكاره من «خارجه» في حين أن الياباني يستنتج أفكاره من الوقائع الملموسة التي يحياها كل يوم، فـ«في اليابان تضاف حقائق جديدة كل يوم، بينما العربي يكتفي باستعادة الحقائق التي اكتشفها في الماضي البعيد». الأفكار الجاهزة تفسد فهمنا للواقع.
يقارن الكاتب بين اليابان والعرب فيقول: «واجه اليابانيون تجربة صعبة ومريرة، فلقد سيطر العسكريون على الإمبراطور والسلطة والشعب وقادوا البلاد إلى حروب.. ولكننا وعينا خطأنا وقررنا أن نصححه، فأبعدنا العسكر عن الحكم، وقررنا أن نبني ما دمره القمع العسكري».. لقد تعلمنا أن «القمع يؤدي إلى تدمير الثروة الوطنية، وقتل الأبرياء ويؤدي إلى انحراف السلطة والدخول في ممارسات خاطئة». ثم يضيف أن «النقد الذاتي له قيمة كبرى في حياة الشعوب، والشعوب بحاجة إلى نقد من الداخل ومن الخارج».
يقول الكاتب إنه كثيرا ما يواجه بسؤال من أصدقائه العرب: «لقد دمرتكم الولايات المتحدة بإلقاء قنبلتين نوويتين على مدنكم، فلماذا لا تكرهون أميركا؟». يجيب أن «علينا أن نعترف بأخطائنا، لقد استعمرنا شعوبا ودمرنا بلادا كبيرة، في الصين وكوريا وأوكيناوا، علينا أن ننقد أنفسنا، ثم نصحح أخطاءنا ونزيل الانحراف، أما المشاعر فإنها مسألة شخصية محدودة لا تصنع مستقبلا».
يصر نوتوهارا على أن الوعي بالمشكلات هو المدخل الصحيح لإصلاحها، لذا يعطف على نظام القيم لدى العربي، ويضرب أمثلة كثيرة على خللها من وجهة نظر اليابانيين.
فالياباني لا يتوقع أن يذهب إلى البنك ليصرف مبلغا من المال ثم يعطيه الصراف أقل مما يستحق حسب السعر الرسمي! أو أن يذهب إلى متحف فيعرض عليه مسؤول المتحف بيعه بعض القطع الأثرية. يصف نوتوهارا من الحوادث في كتابه الكثير، بل شاهد مرة باستغراب راهبة بثيابها الدينية تدفع رشوة! لأنه لا يمكن أن تنهي معاملتها لدى تلك الدائرة من دونها، فنظام القيم العربي يرى الكاتب أن فيه خللا كبيرا لا يستقيم مع التنمية المنشودة.
لقد حاولت أن أقدم لمسة سريعة لهذا الكتاب الذي يفتح عين من يريد أن يرى لأنه يناقش قضيتين، الأولى أن اليابان قد طلقت كثيرا من قيمها القديمة بشهادة رجل مطلع منها، لتدخل عصر التحديث، والثانية أن هناك نظاما من القيم العربية يستحق المراجعة والنقد.
عدت إلى هذا الكتاب في ضوء ما يعرف اليوم بربيع العرب، وقد كنت وغيري قد عرضناه على القراء، إلا أن العودة إليه اليوم تذكرنا – بقسوة – بما نعرف، فنحن قوم لا نقرأ!
آخر الكلام..
«الربيع السياسي للعرب لم يرافقه حتى الساعة ربيع ثقافي، وإن استمر ذلك النقص فإن الربيع لن يزهر، فلا توضع العربة أمام الحصان، ونتوقع أن تسير إلى الأمام»!