يحكى أن أحد الرعية تكلم في حضرة أحد الحكام الطغاة فانتقد ظلمه ، وما كان الموقف يسمح للحاكم بالرد على المنتقد فأشار لأحد أتباعه : (يافلان … أسكته ) ، فلما انفض الجمع جاء الرجل لسيده وقال له : لقد اسكته يا مولاي ، سأله وكيف فرد عليه : قتلته . ضحك الطاغية وقال له في نبرة الساخر : أنا لم أقل لك اسكته ( بالسيف ) وأنما ( بالعطاء ) فالأخير أكثر وقعا يجنبنا النقد ويبعدنا عن التهمة .
أن تقف بوجه الظلم شيء عظيم ، وأعظم منه أن تتمسك بموقفك ، ولا تخضع لمغريات الحاكم ولا لحبائل الشيطان ، وتأتي عظمة هذا الموقف كونه يضعك في خانة ( المصلحين المخلصين ) الذين يهمهم سعادة البشرية بعيدا عن المصالح الخاصة ، وهذه من صفات الأنبياء والمقربين والمخلصين أصحاب المباديء العظيمة وفي مقدمتها الحب في الله والكره له .
والشيطان لايسعده مثل هؤلاء فيحاول أن يجتهد بما يمتلك من قوة ليعيدهم إلى حضيرته . ويتجلى الإنسان في أجمل صوره عندما يتمرد على نزعاته الدنيوية وينفلت من حبائل الشيطان وإغراءات السلطان ، وهو إذا ما نجح في ذلك فإنه ينتقل إلى منزلة إلهية ، ليس في وسع أي أحد أن يثبت عليها ، إذا لم يمتلك صاحبها إيمانا راسخاً وشرفا أصيلاً وقلبا جامداً . والتاريخ يحدثنا عن أشخاص بلغوها لكنهم فقدوها في السنوات الأخيرة من حياتهم ، مثل الزبير بن العوام وطلحة ، لقد جاء قاتل الزبير بسيفه لعلي عليه السلام فراح عليٌ يقلبه ويقول : سيف طالما كشف به الكرب عن وجه رسول اللـه (ص) .
يقول الحكماء أن القابليات الفريدة ( الشجاعة – القلم – البراعة – النبوغ وغيرها ) تقترن بإخلاص صاحبها بالله وبقضيته ( إذا صعد الإخلاص نزل التوفيق ) والتعريف الفلسفي للتوفيق هو : ( قبول القلب إلهام الملك ) . وقد ورد في الحديث الشريف : إن الله ينظر إلى قلب المؤمن ، فإذا رأى فيه إخلاصاً سدد خطاه وتولاه . والقلب الخالي من الإخلاص لا يتقبل الإلهام فيسقط في أول مطب دنيوي .
المقدمة أعلاه تبين لنا أن أسس التوفيق الألهي هو الإخلاص لله في كل عمل تقوم به ، لأن الله يمقت من يشرك به حتى بنوايا الأعمال ، صغيرة كانت أم كبيرة ، وفي ذلك حكمة قد لاندرك حقيقتها ، لكنه قانون وسنة واضحة وصريحة في القرآن وفي السنة وفي ثقافة أهل البيت .
والآن نريد أن نسحب ما تقدم ، على مشهدنا السياسي والاجتماعي في العراق ، في زمن ما بعد سقوط النظام البعثي المقيت ، فيما يخص علاقة المخلصين وأصحاب التاريخ الجهادي والوطني بدنيا العراق الجديدة الفارهة ، ومدى صمودهم أمام مغريات تلك الدنيا ومن يمسك بزمامها من قادة الكتل والأحزاب السياسية التي أصبحت تتحكم بأموال العراق ومناصبه وامتيازاته ، بعد أن أدركنا من خلال تجربة السنوات التسع الماضية ، أن ثقافة استقطاب الشخصيات المؤثرة بات يسيطر على وجدان الأحزاب الحاكمة خوفا على وجودها وضياع الدنيا من بين يديها . وقد نجحت تلك الأحزاب في اسكات الكثير من الأصوات الأصيلة المخلصة صاحبة التاريخ العريق بإسلوب ( اسكته .. يافلان ) . وأصبح مكتب ( أمين الحزب ) الحاكم وفروعه أشبه ( بإيوان ) ملوك أيام زمان يتهافت عليه المثقفون والسياسيون ، فيوقعون على إلتزامات ( الذل والولاء ) ثم يأخذون عطائهم ويعودون ليمارسوا دور ( المطبل ) أو على أقل تقدير دور ( الساكت عن الحق ) وهو أقبح الإيمان .
الذي يثير الكثير من الحزن في قلوب المخلصين هو أن أصحاب التاريخ والكفاءة والتجربة من أبناء العراق وخاصة الحركة الإسلامية قليلون جداً ، وهذه القلة قد أغرت الحكام وشجعتهم على الاتصال بهم وإغرائهم بما يتيسر من الإمتيازات الدنيوية الزائلة ، ولذا فإن سقوط واحد منهم يشكل خسارة كبيرة لحاضر ومستقبل العراق ، وهي خسارة أكبر وقعاً على ( الشخص ) ذاته عندما يعلن تخليه عن مبادئه التي ضحى من أجلها وعمل بها سنين عجاف من عمره ، وبنى من خلالها ( جاهاً إلهيا ) لايمكن أن تعوضه كنوز الدنيا فضلاً عن فتات مادية أو امتيازات لن تدوم ، وأنا أحب أن اذكر أؤلئك الذين أحنوا هاماتهم أمام أصحاب الدنيا ، أن الجاه الإلهي كالقارورة إذا ما تهشمت فلن تعود إلى حالها ولو رجعت فستكون مشوهة ، لأن اليد التي صنعتها في المرة الأولى إلهية والتي أعادتها بشرية جذباء ، وما أكبر الفرق بين تلكما اليدين .
وأنا أدعو أؤلئك الذين عافوا مسؤوليتهم الشرعية وباعوها بثمن بخس ، للتمعن في بريق جاه المتربعين على عرش الطاووس في بغداد ، فلابريق لهم مع علو منزلة المناصب التي تقلدوها ، وهذا ما يطلق عليه أحد علماء الإجتماع بمصطلح ( غياب الجاه في منزلة الجاه ) ، لأن ممارسات احدنا في هذه الحياة مهما كانت صغيرة أو كبيرة تبقى محكومة بالتأثير الغيبي ، الغيب الذي يبقى جزءا اساسيا ينظم العلاقة بين الدنيا والآخرة في غفلة منا ، لأننا محكومون بقيود مادية ، أنست الإنسان الله فنسي نفسه .
أنا أقول لهؤلاء الملتحقين بركب المطبلين أو الساكتين ، لقد خسرتم أنفسكم وخسرتم الوطن ، فقفوا حيث أنتم ، فتاريخ بعضكم وأنتم أبناء الرسالة لايسمح أن تبيعوه بدراهم مشبوهة ، لأن موقفكم هذا لن يلبي طموحكم ، وسوف تندمون وتعضون على الأنامل يوما ما ، وأعود لأقول أن المال إذا ذهب يعود ، بيد أن الجاه إذا ذهب لن يعود . كما أن للباطل شياطين يثبتوا أصحابهم ، فإن للحق ملائكته يشدوا أزر أصحابهم فاختاروا أي قرين تتخيرون .
ولا بأس بالتذكير بموقف الشاعر المبدع أحمد مطر ، فلقد عرضت عليه أموال الكويت لشراء صوته فرفض وقال : سوف أبقى أدافع عن الحق .. ويذكرنا هذا الموقف بموقف الداعية ( أبي ذر الغفاري ) الذي بقي ثابتاً على موقفه من الظلم والانحراف حتى نفي إلى ( الربذة ) .. وما أجمل الصورة التي رسمها إلإمام علي عليه السلام لذلك الموقف الإلهي عندما قال له وهو يودعه إلى منفاه : يا أباذر أن القوم خافوك على دنياهم وخفتهم على دينك …
5 comments
طالب الرماحي
الكاتب الفاضل
بارك الله فيك لتلك الكلمات التي كم يحتاج اليها الان الانسان العراقي الذي بات يعيش في دوامة من امره, حتى اختلط عليه طريق الحق من الباطل , فطغى الظلم وساد الجور.
احييك على كل حرف جاء في هذا المقال القيٍّم.
أعرفك قبل سقوط الطاغية معارضا أصيلا، و أشد على يدك لأنك بقيت نظيفا عفيفا لم تسمح لماضيك الجهادى بأن يتمرغ فى أوحال الزمرة الحاكمة الفاسدة اليوم فى العراق. أن يبقى الإنسان نظيفا على الدوام دون ان يتأثر بمغريات السلطة و المال و الجاه أمر صعب المنال لكنه ليس بالأمر المستحيل. دام قلمك مدافعا صلبا عن الحق، كاشفا عن مفاسد الحكام بغض النظر عن أسمائهم و عناوينهم الحزبية.
عرفت الدكتور طالب الرماحي من خلال عملنا في المعارضة العراقية وبعدها في موقفه المتفاني من أجل عدم تسيان قضية المقابر الجماعية .. وراقبته وهو يجتاز الإختبار بعد الإختبار في رفضه لمختلف الإغراءات التي توفرت له وكنت أحيانا أنتظر خائفا من وقوعه في شرك التحول إلى خانة البائعين ضمائرهم .. إلا إنه كان يجتاز كل إخنبار بنفوق ونجاح .. لم يضعف ولم يهن عليه بيع تاريخه ومبادئه مقابل وظيفة أو مبلغ أو موقع .. و ساذكر الدكتور طالب الرماحي مخلصا لمبادئه وتوجهاته .. وقد نختلف في توجهاتنا الأساسية ومنطلقاتنا الفكرية إلا إنني أبقى أحترم فيه الرجل الصادق مع نفسه ومع وطنه ومع مبادئه وأفتخر بصداقته ومسيرته.
دكتور، لخاطر الله قابل الامريكان والصهاينة يحررون العراق لكي يسلموه للسيد، لا يوجد سفلة ومجرمين في التاريخ مثل الهمج الذين هتكو عرض العراق واللعنه على ديمقراطية تدمر البلد وتقتل نصفه وتهجر نصفة دون وازع اخلاقي ولا ضمير والرثاثة والانحطاط وصل الى الاعلى في الدور المجرم فيما يعرف بالربيع العربي والذي وصل الى منتهاة في اعدام القذافي لاذلال العرب وتفتيت المفتت حسب ايدلوجية التلموديين. واكص ايدي اذا تقدم العراق خطوة واحدة بهذه الطغمة التي اتت مع المحتل النذل. الم تسال تفسك لماذا يقسم العرب الى شيعة وسنة في حين ان الاكراد هم الشعب الوحيد دون دولة. اتعلم ان الوكالة اليهودية موجودة في شمال العراق منذ 1932 وهجرت اليهود الاكراد قبل اعلان دولة اسرائيل.هل ترى السفالة الان في سوريا يرتب الصهاينة الاجلاف لذبح العلويين لاجبارهم على الانسلاخ عن سوريا لهماية حياتهم. العرب يواجهمن الاعدام وهدف الصهاينة احتلال مكة وتحويلها الى جامع محاط بالملاهي مثل الفاتيكان وسيحصل اذا ما استمر العرب بهذا الجهل والتسطح الفكري ..
حياك الله دكتور طالب الرماحي المحترم. مقال رائع يتبنى موقفاً رسالياً في ظل ازمة التراجع عن القيم وخذلان المبادئ وبيع الذمم والضمائر بابخس الاثمان وارذل الطرق. ارجو منكم قراءة مقالي على الرابط ادناه مع التقدير والاحترام.
محمد جواد سنبه
كاتب وباحث عراقي
العراق
مُقتَرَحٌ لِحَلِّ الأزمَةِ السِيَاسِيّةِ العِرَاقِيّةِ!!.
http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=65520:2012-06-28-09-22-30&catid=36:2009-05-21-01-46-14&Itemid=54