لقد أطلق الله على نفسه بالأحد ، وكلمة التوحيد اعز وأغلى كلمة عرفتها البشرية ، وتفاعلت معها وحاول المؤمنون أن يجسدوها ، قولاً وعملاً ، والإسلام نادى بالوحدة ونبذ الفرقة ، والعقل الإنساني يقر الاتحاد ويأنف من التفرقة ، وأوربا ( العلمانية) ادركت معنى التوحد وهي تسير بخطى سريعة نحو كيان واحد ، تذوب فيه كل العلامات الفارقة لشعوب دولها ضمن الكيان الأكبر ، وخاصة أن ثمرة ( هذا الإتحاد ) قد جعل الأوربيون يقفزون باتجاهه قفزات كبيرة وصلت حد الإندماج التام والمتمثل بـ ( دستور موحد ) و ( وجيش موحد) و(عملة موحدة) بل أنهم ( الأوربيون) بدأوا يزحفون شرقاً لضم الكثير من دول شرق أوربا لاتحادهم ، لقد أدركوا أن ذلك يحفظ للإنسان حريته وكرامتة ، ويجعله في موقع أكثر قوة ومتانة ، ناهيك من أن ذلك ينطوي على انجاز الكثير من ( المكاسب) الإنسانية التي تعجز الدولة لوحدها أن تصل إليها ….
ونحن المسلمون بصورة عامة ، لايشك منا إثنان ، من أن ضعفنا في تفكك (عرانا) وتباعد أوصالنا عن بعضها ، حتى أصبح جسم المجتمع الإسلامي في عصرنا هذا واهياً مريضاً ، ومصداقأ لمقولة الزهراء عليها السلام قبل 14 قرناً ( مذقة للشارب ونهزة الطامع ) أو قصعة تتزاحم عليها أيادي الغرباء ، ولا أريد أن أسبر غور الأسباب التي رمت الأمة في أتون الضعف ، فتلك قصة ليس في وسع أحد أن يناقش فصولها ، فالأسباب كثيرة والدوافع راسخة في النفوس لايحركها من موضعها إلا ( معجزة إلهية ) ، والتجربة الحديثة تثبت أن لا أمل لوحدة ، وإن كان ثمة أمل في تعايش مبني على بعض من حسن ظن حذر بالآخر ، حفاضاً على المصالح المشتركة ، وحفاضاً على الهوية التي يقف إزاءها مارد مادي علماني ، يمتلك كل مقومات البطش . فإذن نحن ليس في صدد التحدث عن وحدة بين خطين تاريخيين متوازيين ، أثبتت القرون الماضية أنهما لن يلتقيا ( حتى يردا الحوض) ، لكن ذلك لا يعفينا من أن يفكر بعضنا بحاله ، وأن يصلح ذلك الحال مستفيداً من تجارب السنوات العجاف التي نمر بها ، والتي أوقعتنا أخيراً في ظلمات ( نصف القرن) الأخير ، والذي توجه ( نظام العفالقة) بمأساة دموية قل نظيرها في تاريخ البشرية القديم والحديث ، هذه التراجيديا أوشكت أن تقضي علينا لولا لطف الله ، الذي هيأ لنا (الأمريكيين) وأدخل في روعهم ضرورة إزالة آلة الموت التي طحنت بلا رحمة الملايين من محبي أهل البيت …
ولأول مرة في تاريخ المنطقة العربية وتاريخ العراق يخرج ( شيعة أهل البيت) من رحم الظلم ، وتتنفس الطائفة هواء الحرية ، في أجواء خالية من الأسوار ونقاط التفتيش ، وزوار الليل وحفاري القبور الجماعية ، لقد نقلتنا الرحمة الإلهية من قبضة القهر ، الى عالم لم نكن نحلم به من قبل ، عالم يستوجب علينا الشكر والصلاة الدائمة ، ورد الجميل لمن أفاض به علينا ، فهل نشكر حقاً ونحفظ هذه الهدية الإلهية ونصونها ، ونضحي من أجل بقائها ، ونحرسها ممن يريد أن يختطفها منها بأي ثمن ؟؟
إنها لفرصة تاريخية ، أصبحنا فيها طليقي الأيادي والعقول والألسنة ، لذا فعلينا أن نفكر كما ينبغي العقلاء أن يفكروا ، وكما ينبغي أن تفكر امة تحيط بها الذئاب الكاسرة والوحوش المتعطشة للدماء ، وخاصة أن شرايين الطائفة لم تعد تتحمل نزفاً آخر ، علينا أن نفكر فرادى وجماعة ، فرادى نتجاوز أنانيتنا ونرجسيتنا الماضية ، فلا نلغي مصلحة الطائفة من أجل مصلحة الفرد الصغيرة التافهة ، فيكون أحدنا ( كعاقر ناقة صالح ) . وجماعة ، فلا ننساق وراء ( عقل جمعي ) ينحدر بنا لتفكير مراهق لم يع بعدُ مايدر حوله ، علينا إذن أن نفعل كما تفعل الأمم التي تعاصرنا أو التي سبقتنا ، ونرى كيف تحررت من عقال التخلف وحلقت في أجواء التقدم والرفعة ، ليس عيباً أن نتعلم من الآخرين ، لكن الخزي في أن نبقى الى الأبد في هوامش موسوعة التاريخ ، مع أن الله جعلنا سطراً أولاً في متون تلك الموسوعة ، لم يشطبنا الله من موقعنا ذلك وحاشاه أن يفعل ، لكننا جنينا على أنفسنا ، ونحن وحدنا المسؤولون عن الشطب والانحدار نحو الهامش ، وعليه فنحن الآن في ظرف ، تتوفر فيه كل مقومات إصلاح الذات والواقع ، وخاصة أن المأساة التي تقلبنا على صحنها الساخن أكثر من ثلاث عقود ، وكانت سبباً في تشريد أكثر من ثلاثة ملايين في ارض الله الواسعة ، هذه المأساة حملت في طياتها أيضاً ماهو مفيد للطائفة ، كالنضوج الفكري لدى العامة في معرفة الحقوق المسروقة من قبل الآخرين ، أو المضيعة لأكثر من سبب ، فقد أدرك المثقفون وغيرهم في أوساط الأمة خطورة ما ارتكبه أعداؤنا ، من محاولات لمسخ هوية التشيع أو تفريق جمعنا وأيصالنا الى حالة من الضعف يسهل معه احتوائنا ، فثقافة الدفاع عن حقوق الطائفة أصبحت ظاهرة مشاعة ولأول مرة بعد أن كانت لدى النخبة فقط .. ثمرة أخرها أفرزتها المأساة والتشرد ، وهي ظهور نخبة مثقفة واعية ، فكرياً وتقنياً وسياسياً ، وهي رصيد رائع في حساب الطائفة تعزز من موقعها ، وتقوي شوكتها وتجعلها أكثر فدرة على التحرك نحو مستقبل أفضل..
وحدة المرجعية أقرب الطرق الى تحقيق أهداف الطائفة
اذن لدينا مقومات أصلاح ما كانت تتوفر لدينا ، لكن ، كيف يمكن إعمال هذه المقومات لنحقق من خلالها أهدافنا النبيلة ، نحن بحاجة الى آليات تتحرك من خلالها الطائفة ، ومن أقوى تلك الآليات هي المرجعية الرشيدة ، وخاصة أن أثر هذه المرجعية على الواقع السياسي والاجتماعي وحتى الأداري ، في وقت مابعد التحرير، كان أثراً ملموساً وغيَّر الكثير من المسارات ، وأثبت أن له القابلية على أجبار أصحاب القرار ( اقليمياً ودولياً ) لتغيير مواقفهم ، بحيث يتناغم مع رأي المرجعية وتوجهاتها والتي تصب في مصلحة الشعب العراقي ، ولعل موقف السيد علي السيستاني ، من الانتخابات كان دليلاً واضحاً على عمق أثرها في المشهد السياسي العراقي . لكن هذا الأثر سوف يكون أكثر وقعاً وقوةً لوصدر من ( مجلس للمرجعية ) يضم المراجع العظام الأكثر تقليداً ، فتتسع معه مساحة الولاء الشعبي ، وهذا لا يتعارض مع القاعدة الشرعية في اختيار المُقلد لمن يريد أن يقلد مجتهدا معيناً ، لكن ( الفائدة ) تكمن في كون القرار السياسي الصادر من (مجلس مرجعي) هو غير الذي يصدر عن مرجع واحد ، وتفاعل الشارع مع قرار الجماعة غير التفاعل مع الفرد ، ولا أعتقد أن تحقيق مثل هذا الهدف الشعبي يستعصي على علمائنا وقادتنا الربانيين ، إذا توفرت الرغبة المخلصة في تحقيقه ، والرغبة المخلصة للتخلي عن القيود الكثيرة غير الإيجابية ، التي قيدت هذا الكيان المهم خلال تاريخها الطويل ، وخاصة أن المجلس سوف يضمن للطائفة بقاء متانة القرار في حالة وفاة أحد المراجع ، ولا يستوجب بناء إدارات ووكالات ومؤسسات أخرى ، يبدأ العمل بها من جديد مع رحيل كل مرجع …
مجلس اقتصادي موحد
والمعروف أن أهم ركن في كيان المرجعية هو الركن الاقتصادي المتعلق بالحقوق ، وكيفية صرفها والأشخاص المخولين بذلك الصرف ، والعرف السائد في مرجعيتنا أن المرجع يسلم زمام هذا الركن ( ألخطير ) بيد اشخاص ، غالباً ما يرتبطون بعلاقة قربة أو نسب أو علاقة خاصة ، وليس ثمة رقابة أو محاسبة على تصرف أولئك الأشخاص ، وقد حصلت أخطاء مالية كثيرة لايمكن تجاهلها ، ولا هي بعيدة عن أنظار الطائفة ، وقد تعرضت المرجعية وما تزال الى الإنتقادات الكثيرة نتيجة لتلك الأخطاء ، وأن من حق الطائفة أن تقول كلمتها في أموالها والتي هي مجرد أمانة لدى ( المرجع ) ، وأعتقد أن من المناسب أن أسوق مثلاً لمثل تلك الأخطاء التي لا يجوز السكوت عنها ، وهو مشروع ( المجمع التعليمي للسيد الخوئي في الهند ) والذي يطلق عليه ( مشروع تالوجة) حيث صرف عليه ( الوكيل) أكثر من 18 مليون دولار ، وقبيل اكتماله في سنة 1993 وضعت اليد عليه منظمة ( شيف سينا) المتطرفة ، والتي تحكم ولاية ( مهراشترا) ، ولا مجال لذكر الأسباب الكثيرة ، التي فسحت المجال للهندوس من أن يصادروا هذا المجمع ، الذي ضاع وضاعت معه أموال الطائفة ، هذا المشروع مازال خربة تضر ولا تنفع . وهومثال وما أكثر الأمثلة المشابه . ناهيك عن الأموال الطائلة التي ضاعت في مشاريع تجارية لم يكتب لها النجاح . فلوا أن هناك ( مجلساً اقتصادياً موحداً ) ، لكان العمل جماعياً وليس فردياً ، ولتحاشى المجلس الوقوع في متاهات الاجتهادات الشخصية المتسرعة ، فالكثير من المشاريع التي تشيد من قبل الوكلاء ، ينظر فيها النفع الخاص أكثر من النفع العام ، لكن مع مراقبة وإشراف المجلس الموحد تُصرف الأموال في موارد أقرب الى نفع الطائفة وسد احتياجاتها ، و سوف تقطع الطريق على المنتقدين والباحثين عن الذرائع ‘ لتشويه سمعة المرجعية .. لذا فإن تشكيل مثل هذا المجلس مطلباً ملحاً من قبل أبناء الطائفة في هذا الوقت الذي نرى فيه الأمم والشعوب الأخرى في تطور مستمر، وتغير دائم لترميم وتصليح كياناتها وسد النواقص فيها تماشيا مع روح العصر وقفزاته المستمرة …
خاتمة
موضوع توحيد المرجعية هو ليس جديداً ، فقد سبق وأن طُرح من قبل الشهيد الأول محمد باقر الصدر في المرجعية الرشيدة ، وقد ذكر الشهيد الأسباب التي تستدعي ذلك ، بعد أن بين الأخطاء الكثيرة التي لايمكن معالجتها إلا من خلال انشاء مجلس موحد للمرجعية ، كما أن السيد محمد حسين فضل الله ، نادى بذلك في كثير من طروحاته الكتابية وفي محاضراته ، والسيد عبد الله الغريفي دعا لها ، وكثير من علمائنا الأعلام ، يرون في هذا المشروع مصلحة للطائفة ، لكن وللأسف الشديد كل الدعوات كانت تجابه بمعارضة من قبل وكلاء المرجعية القائمة .. وأنا هنا أقدم هذا العرض من قبيل التذكير ، والإصرار على قول ما ينفع ، وخاصة أن الطائفة تعيش حالة من المخاض ، وكل الشرفاء والمخلصين يتمنون أن تكون نتيجة هذا المخاض ولادة أمة جديدة متينة يكون لها صوتاً مؤثراً بين شعوب المنطقة والعالم ..
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين