الدكتور طالب الرمّاحي
رئيس اللجنة المشرفة على الإعتصام
مركز العراق الجديد للإعلام والدراسات 23 آذار 2005 : الثاني والعشرون من آذار 2005 كان يوما مشهوداً في حياة الجالية العراقية في بريطانيا ، فقد اسرع الجميع رجالاً ونساءا شبابا وكهولاً وأطفالاً يحملون في صدورهم حب العراق ، تجمعوا أمام السفارة الأردنية في لندن ، وحناجر الجميع تصدح برفض الظلم أنى كان ، من الأعداء أو من الأشقاء ، وكما حصل من ظلم من قبل الأردن شعبا وحكومة عندما تجاوزا كل الأعراف والقيم والمباديء فاستخفوا بمشاعر أهل الرافدين، وراح البعض منهم يحتفل بسفك دم الأبرياء وإقامة الأعراس ابتهاجاً بمذبحة الحلة التي راح ضحيتها المئات من المدنيين جلهم من حملة الشهادات العليا . (الشيعة) مسالمون وهذا ما يشهد له العالم بأجمعه ، فقد تعلم أهل العراق من أهل البيت كيف يحبون ، بل كيف يصنعون مع الآخرين الحب والوفاق وكل ما من شأنه أن يعمق مفاهيم الإسلام ، والإسلام هو الحب والسلام .
كان اعتصاما سلميا ، ويهدف أن يذكر الأردنيين أن ثمة مظلمة قد وقعت وتقع على شعبنا الذي لم يزل يعاني من مخلفات النظام الصدامي المقيت ، ولم تزل أوباش البعث تعبث في أرواح وممتلكات أبناء العراق وتسفك الدماء وتخرب كل شيء تطاله أيديهم الآثمة . كان أبناء الجالية يريدون من شعب الأردن أن يستيقظ من سكرة الحقد التي لم تزل تحكمه منذ عقود طويلة ، وكانوا يريدون أن يقنعوه من أن صداما الذي غمرهم بنعم الشعب العراقي واسرف عليهم من عطايا النفط والأراضي وغيرها ، ما عاد في وسعه أن يفعل ذلك وهو ينتظر مصيرا مجهولاً اقله أن يعلق ( مشنوقا ) في ساحة التحرير وسط بغداد ليدفع بعضا من فاتورة طغيانه وظلمه ، وعليه ، فإن على الأردنيين أن يرسموا لهم علاقة جديدة ، علاقة شعب بشعب ، وليست علاقة شعب مع جلاد شعب آخر.
لقد ذهبتُ ممثلاً للجالية لأسلم مذكرة الإحتجاج والمطاليب ، وكان العرف الذي عرفه العالم أن يستقبل السفير ممثل الجالية بلطف ويستلم المذكرة ويعد المحتجين بمخاطبة الحكومة الأردنية ، لكن الذي حدث غير ذلك ، فقد خرج بعض الموظفين عند باب السفارة، وانبرى من بينهم شاب وراح يتكلم بلغة التحدي رافضا قبول المذكرة . قلت له : إنك تقترف خطأً بحق العراق ، وتسجل موقفا سلبيا آخرا وأنت تمثل الأردن . قال : هذا مالدي ولسنا في استعداد لقبول المذكرة . فقلت له : إنكم تتحدون بهذا الموقف أبناء العراق ، وقد قبلنا التحدي وسوف أخبر الجالية بذلك فترى ونرى.
رجعت الى الجالية ، وهتفت بهم قائلاً : إن السفارة تتحداكم ، وهي ترفض قبول مذكرتكم.
وحدث ماكنت أتوقعه ، بل ويتوقعه كل عاقل منصف ، فقد ثارت ثائرة الجموع ، وأول ما فعلوه هو أن أحرقوا العلم الأردني وأحرقوا معه صورة كبيرة ( للملك عبد الله ) لقد حاول رجال الشرطة أن لا يحدث ذلك ، لكنهم فشلوا ، ثم اندفع جمع من الشباب نحو السفارة ، وحاولوا اقتحامها ، لكن الشرطة البريطانية والتي استدعت أعدادا غفيرة من عناصرها وقفت حائلا دون ذلك ، لكن البعض نجح في الوصول الى باب السفارة الذي أغلق بإحكام وركلوه بإقدامهم . لم ينته الأمر عند هذا الحد فقد استشاطت الجالية غضبا وارتفعت الهتفافات ، وطفق البعض فانهال على السفارة بالقناني الفارغة وبالحجارة فتهشمت النوافذ الزجاجية .. وما هي إلا دقائق إلا وأتتنا رسل السفارة بأنهم على استعداد لإستقبال وفد من الجالية وهم على استعداد أيضا لقبول مذكرة الاحتجاج .
لقد رفضوا للوهلة الأولى استقبال شخص واحد من الجالية ، لكنهم وبعد أن رأوا ما حصل ، رضخوا للمطاليب التي رفضوها أول مرة ، لقد درجت الحكومات العربية على هذا الخلق ، أن تقبل بأي شيء لكن مع الخوف والذل .
أخذت معي ثلاثة من الجالية ، وفتحوا الباب من أول ( طرقة ) ، واستقبلونا بالترحاب وكلمات الأخوة ! لقد كان الرعب يطفح على وجوه الجميع داخل السفارة ، وكان عددهم مايقرب العشرين ، قادنا احدهم الى الطابق الأعلى ، واستقبلنا السفير(الدغستاني ) الذي عرف لنا نفسه ، ثم قادنا الى غرفته ، وجلسنا جميعا وتكلم وتكلمنا ، لقد عرضنا مظلومية شعبنا ، وتجاوزات حكومته ، وبرر وأنكر ووأكدنا له بالدليل أن مواقف الحكومة الأرنية عدائية ( حد العظم ) وأقبح ما في تلك المواقف أنها طائفية مقيتة ، وسقنا له أكثر من مثال منها تحذير الملك عبد الله من ( الهلال الشيعي ) (وتصويت البرلمان الأردني ضد إجراء التصويت للعراقيين في الأردن على الأراضي الأردنية) (وصمت الحكومة في الأردن على الإحتفال الذي أقامته عائلة المجرم ( منصور البنا ) واعتباره شهيدا) . وقبل أن اسلمه المذكرة وننصرف خاطبت السفير قائلا ً :
سيادة السفير : لا أعتقد أن من مصلحة شعبينا أن يبقى الأردنيون حكومة وشعبا تحكمهم مشاعر الولاء لصدام ونظامه ، فنحن نعتقد أن التغيير الذي حصل في العراق قد أشعركم بخسارة كبيرة لأنكم كنتم تحصلون على كل شي من (نفط) وعقود تجارية وتسهيلات وحتى أراضي من دون مقابل ، وكنتم تعلمون أن ذلك كان يحصل على حساب آلام وفقر شعبنا العراقي المظلوم ومع ذلك بقيتم تتصرفون من وحي أن غياب صدام كان خسارة كبيرة للأردن وأن عدم استقرار العراق هو في صالحكم ولذا فإنكم تركتم حدودكم مع العراق دون رقيب ، عكس ما تفعلونه في حدوكم مع اسرائيل .
كما أننا نستغرب من أن ( جلالة الملك ) يمتنع عن الإعتذار للشعب العراق عن جريمة ( منصور البنا ) الذي أزهق أرواح الأبرياء وخاصة أن غالبيتهم من حملة الشهادات العليا ، مع أن ( الملك حسين ) قد اعتذر لعوائل اليهود الذين قتلهم أردني . نحن نطالب باعتذار رسمي من جلالة الملك لشعبنا العراقي و تعويض الذين قتلوا في عملية الحلة وضبط حدودكم حتى لا يتسنى للإرهابيين التسلل وكما هو حاصل خلال السنتين الماضيتين .
سيادة السفير : لقد ضمّنا مذكرتنا هذه كل المطالب ونحن ننتظر من حكومتكم الرد عليها ونحن نأمل أن سياسة الأردن سوف تتغير لما هو في صالح الشعبين الشقيقين. فليس من الحكمة أن تغضون الطرف عما يحصل من تغيرات في العالم ، وعليكم أن تعترفوا بما حصل في العراق من توجهات جادة باتجاه الديمقراطية ، فأنتم أقرب إلينا وأقرب الى التأثير أو التأثر بنا .
غادرنا السفارة ، وأخبرت الجالية المعتصمة أن الذي قد جاؤا من أجله قد تحقق ، وأن غضبكم على حقكم قد جعلهم يتراجعون عن باطلهم …
لقد كانت الفرحة تغمر وجوه الجميع ، إنها لحظات كان فيها الجميع يشعرون أنهم عملوا شيئا للعراق وأن العراق يستحق اكثر مما عملناه ، إنه العراق العظيم وشعبه الأعظم …*