يُمكن لمجلس السياسات الإستراتيجية الذي طالت حكايته كثيراً أن يكون، إذا ما أنشئ على نحو جدّي ومسؤول، مؤسسة أكثر أهمية من أية مؤسسة أخرى في الدولة، بما فيها رئاسة الوزراء ورئاسة الجمهورية، إذا ما أُُبعدت عنه السياسة ومماحكاتها، وإذا ما صُمم لأن يكون دائماً وليس مؤقتاً لترضية السيد إياد علاوي أو غيره.
ترك نظام صدام العراق خرابة حقيقية، والمجتمع العراقي معلولاً بألف علّة وعلّة. والأنكى أن العهد الجديد الذي كان منتظراً منه أن يُعيد اعمار البلاد بسرعة صاروخية، وأن يُدخل المجتمع في غرفة العناية المركزة، زاد من مستوى الخراب وأضاف عللاً جديدة تحتاج هي الأخرى إلى عملية إنعاش طويلة الأمد.
ومجلس السياسات إذا ما أنشئ بوصفه هيئة مستقلة مُعتبرة ومسموعة الرأي وذات موارد مادية وبشرية كافية، فان في وسعه أن يضع الخطط الإستراتيجية لإنقاذ البلد من خرابها الشامل والمجتمع من معاناته المتفاقمة وأمراضه المزمنة والمستحدثة، إذ يستطيع هذا المجلس أن يستقطب خيرة الكفاءات العلمية والتكنولوجية والثقافية الوطنية، بمن فيها المنفية في الخارج، وأن يشرع بوضع الخطط اللازمة في ميادين الصناعة والزراعة والأمن والطاقة والتعليم والصحة والري والبيئة والخدمات العامة، لتكون مرجعاً وأساساً للبرامج الحكومية وللتشريعات التي يتعين أن ينجزها مجلس النواب.
في العهد الملكي أنشئ مجلس الإعمار الذي يعود إليه الفضل في تصميم مشاريع إستراتيجية عجزت الحكومات الجمهورية عن تنفيذ ما يماثلها بسبب دخول البلاد في حقبة صراعات سياسية عاصفة ودامية وفي حروب داخلية وخارجية مدمّرة. ويمكن لمجلس السياسات الإستراتيجية أن يلعب دورا أكثر أهمية وحيوية من مجلس الإعمار، فأموال النفط الشحيحة التي اعتمد عليها مجلس الإعمار في الماضي تضاعفت الآن أكثر من مئة مرة.
كل ما يتطلبه الأمر عدم تسييس هذا المجلس، وهذا يتحقق عندما لا ينحصر مسعى المتحمسين له في أن يجعلوا منه مجرد واجهة لمنافسة السلطات الرئيسية ، وبخاصة التنفيذية، وقضم صلاحياتها،وهو يتحقق أيضا عندما لا يركّز كارهو هذا المجلس جهودهم على تحويله إلى ديكور سياسي مؤقت فحسب.
المناكفات والمماحكات والمنافسات غير المبدئية التي تسعّرت غداة ظهور نتائج انتخابات الجمعية الوطنية مطلع العام 2005 بين القوى السياسية المتنفذة في العملية السياسية المتكالبة على السلطة والمال، واستنادها خصوصا إلى قاعدة غير وطنية (طائفية في الغالب)، تسببت في تضييع فرص كثيرة لإنجاز مهمة إعادة الإعمار الملحّة ومعافاة حال المجتمع المريضة والتقدم على الطريق الديمقراطي .. وهذه المناكفات والمماحكات والمنافسات غير المبدئية هي وراء الأزمة المشتدة التي دخلت فيها البلاد منذ الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي مرّ عليها الآن سنة ونصف السنة من دون أن تلوح بوادر للخلاص منها.
ولكن من يُقنع ائتلافي دولة القانون والعراقية، وبالذات زعيميهما السيد نوري المالكي والسيد علاوي، بالكف عن مناكفاتهما ومماحكاتهما ومنافساتهما غير المبدئية، ووضع مصلحة العراق وأهل العراق ومستقبل العراق بين عيونهم؟