” في الأخطار العظيمة تظهر الشجاعة العظيمة “
رونييه
أن من المسلم به في أدبيات الثورة هو أن ميكانزم الثورة يقوم على خلفية التناقض الذي لا يحتمل الاستمرار بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج السائدة, والذي يفرز ظواهر الفقر المدقع, والتدهور للحياة بأبعادها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية, والعلمية, والصحية, والتعليمية والخدمية بمختلف مظاهرها. ويكون الهدف المتوقع من الثورات هو إعادة بناء علاقات سليمة وعادلة بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج, بما يفضي إلى إعادة توزيع الثروات بشكل منصف, وإعادة بناء البنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع, بما يوفر المزيد من فرص العمل عبر إعادة هيكلية الاقتصاد, واستحداث المزيد من المشاريع الإنتاجية والخدمية, ويشكل ذلك ضمانة لتحسين ظروف الحياة الإنسانية العامة والارتقاء بها !!!!.
وتكون الإجراءات السياسية اللازمة لذلك, بعد إسقاط النظام القديم, هو بناء نظام سياسي جديد يستند إلى آلية التداول السلمي للسلطة, من خلال ممارسة الديمقراطية الحق عبر صناديق الاقتراع, لتسهيل تمثيل الشعب من خلال أحزابه السياسية ولبناء المؤسسات الدستورية الضامنة للنظام الجديد. ويكون الثقل الأكبر في عملية الصراع السلمي في إطار النظام الجديد على خلفية المشروعات والبرامج الانتخابية ذات الطابع الاقتصادي والاجتماعي التي تقدمها الكيانات والأحزاب السياسية المشاركة في العملية الديمقراطية, والتي سوف تنهض بالبلاد. وتكمن هنا قيمة الصوت الانتخابي في قيمة البرامج الاقتصادية والاجتماعية التي سوف يختارها الناخب ” الشعب “, وهنا تكمن أيضا القيمة العملية للانتخابات, والتي تفتح الآفاق لرسم مستقبل البلاد, بعيدا عن الصراعات السياسية الصرفة والتجاذبات المذهبية والدينية الضارة, والتي تهدد بناء واستقرار أي نظام تقدمي جديد !!!!!.
أن ثورات الشباب العربي القائمة على خلفية عوامل الفقر والاضطهاد والتهميش ومصادرة الحريات الشخصية والعامة, هي ثورات واعدة, في ظل مجتمعات عربية تشكل فيها التركيبة السكانية الشبابية أكثر من 50%, وتجري في عالم منفتح على مصراعيه, تسقط فيه قيمة الأجهزة الأمنية والمخابراتية القمعية والتقليدية, مهما بلغت من قوة وكيد, وهو عالم الحقبة الالكترونية ـ المعلوماتية, والذي يعبئ أذهان الشباب بقيمة البديل الأفضل, ويسهل اندماجهم في مجموعات فاعلة وايجابية, وخاصة عبر شبكات التواصل الاجتماعي, ويضع تجارب الشعوب المتقدمة أمام نصب أعين الشباب الثائر, مما يشكل لديهم دافعية اكبر للفعل الثوري والاستمرار به, ويسهم بدوره في رسم ملامح ذات فردية واجتماعية افتراضية متقدمة مفعمة بالعطاء مقابل الذات المهشمة من قبل قوى الاستبداد !!!!.
واستنادا إلى ذلك تأتي أهمية القراءة الفكرية ـ الإستراتيجية للأحداث الثورية الجارية في العالم العربي لاستقراء مستقبلها, وخاصة تلك القراءات التي تأتينا من مراكز الأبحاث المعنية بالشأن السياسي العربي, والتي لا تزال في معظمها قراءات مأدلجة ومتحيزة ومتأثرة ببلد الإقامة أو جهة التمويل, وهي قراءات ضعيفة ومفسرة فقط للأحداث بعد وقوعها, دون التنبؤ بمسارات الأحداث ومستقبلها, مما يشكل نقصا كبيرا في قيمتها العلمية التنبؤية, وخاصة تجري الأحداث في ظل ضعف ملموس للطلائع السياسية وللمفكرين وللقيادات الميدانية المتمرسة لحركات الثوار, مما يوفر فرصا مواتية لفرض الوصاية ” الأبوية ” على حركات الثوار الشباب من قبل قوى التطرف, الديني منها بشكل خاص, والقوى السياسية الأخرى, ويشكل ذلك بدوره أرضا رخوة للالتفاف على ثورة الشباب وسرقة أتعابها, وعلى سنة المثل الشعبي العراقي القائل: ” محمد التعب بيها ولمها ومحسن أكلها بغير أذية “, أو كما يقول المفكر نجيب محفوظ: ” أن الثورة يخطط لها الدهاة وينجزها الشجعان ويغنمها الجبناء “, وخاصة أن الأحداث الثورية تجري في ” بيئات غير آمنة ” , عشعش فيها الفقر والقمع للسنين طوال فأفرزت التطرف بوجهه القبيح والوحشي و” الجريء ” بتقديم نفسه كبديل, سواء من خلال سرقة صناديق الاقتراع, عبر استغلال مشاعر الناس الدينية وما يرتبط بها من انفعالات مفرطة في ظل حرمان طويل وتجيشهم في لحظات الانتخاب, أم بقوة السلاح وممارسة الترهيب !!!!!.
ويتفق هنا الكثير من علماء النفس الاجتماعي, إن هناك علاقة ارتباطيه موجبة تفسر العلاقة بين الفقر والتطرف الديني, قوامها من الناحية التفسيرية: ” انه كلما تصاعد الفقر وامتدت مظلته انتعش التطرف الفكري والديني بشكل خاص, والناتج عن فقدان الحلول وغياب الآمال في الخلاص منه, والعكس صحيح, أي كلما انخفض الفقر وانحسر مداه, خفت وطأة التطرف الفكري والديني “, ووفر فرصا أوسع للتفكير العقلاني والناقد بعد إشباع معقول للحاجات الأولية. والبيئة العربية هي بيئة مواتية لنشوء الحركات المتطرفة وتمترسها وتمعقلها, بفعل تأصل الفقر والحرمان فيها, ولعل المعطيات الإحصائية لمنظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة ( فاو ) تؤكد ما نذهب أليه, حيث تؤكد المنظمة المذكورة بخصوص العالم العربي أن حوالي 40 مليون عربي يعانون من نقص التغذية, أي ما يعادل 13% من السكان تقريبا, بالإضافة إلى نحو مائة مليون عربي يعيشون تحت خط الفقر, أي يعادل ثلث سكان العالم العربي, وهنا تتضح عمق الأزمة الفكرية والثقافية والسياسية والدينية في عالمنا العربي التي ينتجها الفقر !!!!.
وإذا كان إلى جانب الفقر عوامل أخرى ساهمت في استنبات التطرف, كعوامل التنشئة الاجتماعية الصارمة, بما فيها من ثقافة سائدة وعادات وتقاليد ومنظومة تربوية وتعليمية إلى جانب الفكر الديني المتطرف الذي يفسر الكتاب المقدس وفقا لمصلحة بقاءه, فقد أوجدت الحركات المتطرفة لها اليوم وطأة قدم في مفاصل المجتمع العربي, وتشكل خطرا محدقا بثورة الشباب وتسعى بكل ما تأتي به من قوة لحرف مسار الثورة, بعدما أنجزت وما سوف تنجزه هذه الثورات في مرحلتها الأولى من إسقاط النظم الدكتاتورية, لتحتوي هذه الثورات كخطوة أولى نحو تغير وجهتها, لتحولها من ثورات العصر لإعادة البناء والتقدم, إلى نظم تعيد توليد الفقر والمعاناة وإضفاء الشرعية ” السماوية ” عليها !!!!.
أن الحركات الدينية المتطرفة والمتأسلمة لا توعد الشعوب كعادتها في تحسين ظروف الوجود وانتشال الناس من الفقر والجهل والتخلف, فحياة الدنيا بالنسبة لهم زائلة ولا قيمة لها قياسا بالحياة الآخرة, وبالتالي فهم ليست أنصار بناء ” الجنة ” على الأرض, بل يقومون بشرعنة الفقر والفساد وإضفاء القدرية والقدسية عليه, مستعينين باقتباسات من السنة النبوية والكتاب المقدس وتفسيرات مقطوعة الصلة عن القيمة الاجتماعية التي ظهرت فيها النصوص المقدسة, فالفقر بالنسبة لهم ميزة من مزايا الدخول إلى الجنة, على خلفية حديث النبي ( ص ) بقوله: ” اطلعت على الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء وأطلعت على النار فرأيت أكثر أهلها النساء “, وبهذا يشرعن الفقر في عقول المتطرفين دون البحث عن حلول له, وإذا ما عم التفاوت وتعمقت الهوة بين الناس وشرائح المجتمع وعم الثراء الفاحش, فلهم في الكتاب المقدس ما يستنجدون به, بقوله: ” وما يصيبنا إلا ما كتب الله لنا ـ سورة التوبة/ الآية 51 “, وإذا عم الفساد بألوانه المالي والإداري والأخلاقي, فلهم حجة الكتاب المقدس بقوله: ” وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ـ سورة الإسراء/ الآية 16 “, وهذه المرة يتحمل رب العالمين مسؤولية فسادهم في الأرض !!!!!.
أن التجارب والخبرة التاريخية في العالم كله تؤكد أن الأنظمة المتطرفة, الدينية منها, والدكتاتورية الفاشية, والشوفينية القومية, بدء من حكومات القرون الوسطى الأوربية مرورا بحكم الأمويين والعباسيين, وصعودا إلى التأريخ الحديث المتمثل بفاشية هتلر, وموسليني, وفرانكو, إلى الدكتاتوريات المعاصرة, والتي مثلتها نظام صدام حسين, وحسني مبارك, وزين العابدين وغيرها من النظم التي لا تزال جاثمة على صدور شعوبها, لا تستطيع بناء مجتمعات العدالة والأمن والسلام والرفاهة الاجتماعي, حيث يحل نموذج عسكرة الحياة المقترن بالفساد الاقتصادي والاجتماعي والقمع محل التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة !!!!.
أن ثورة الشباب العربي التي ترى فيها شعوبنا والعالم كله بداية التأسيس لعصر جديد في العالم العربي, والذي عانى لقرون من التخلف والجهل والحرمان, لها الحق في تقرير بدائلها السياسية القادمة انطلاقا من القوى المحركة لها المتمثلة بالشباب المفعم بالعطاء والتواق إلى المستقبل, والذي لا يقبل بغير النظام الديمقراطي الحق بديلا, وليست بنظم أشباه الديمقراطية, وأن الشحنة الانفعالية الأولى اللازمة لانطلاق الثورة والمتمثلة بالخروج إلى الشارع وكسر حاجز الخوف يجب أن تتحول الآن إلى قوة دفع للنشاط العقلي الراقي في اختيار ممثلي الشعب الحقيقيين بعيدا عن خطابات الانفعالات المريضة التي تزييف وعي الجماهير وتعيد دورة الظلم والاستبداد …. وخلاف ذلك تضيع الفرصة والى الأبد في قيام ثورات شباب مماثلة للثورات المجيدة التي نشهدها اليوم !!!!.