جحود ام قصور؟
الدكتور ابراهيم بحر العلوم
في الذكرى العشرين للانتفاضة الشعبانية 1991 نستذكر وقائع كثيرة فمن ابرز معالمها المقابر الجماعية التي كانت نتاجا لديكتاتورية النظام الصدامي وسياساته العدوانية ضد الشعب العراقي. وفي هذا السياق لعل ذاكرة البعض منا تتذكر السادس عشر من مايس 2003 في الوقت الذي انشغل الكثير في تلك الفترة بالبحث عن احبائهم وضحاياهم في السجون والمعتقلات وملفات دوائر الامن غير ان محاولاتهم باءت بالفشل فلم يعثروا على اثر يذكر الا اكتشاف المقابر الجماعية. فكانت مقبرة المحاويل اكبر المقابر التي اكتشفت لضحايا الانتفاضة الشعبانية والتي تم اكتشافها في 16 من مايس 2003 واستمر البحث فيما بعد عن مقابر اخرى حتى وصل عددها الى اكثر من 300 مقبرة موزعة في محافظات العراق. ونظرا لصعوبة توفر المستلزمات الفنية في حينها لضمان معرفة ضحايا النظام تم الاضطرار الى التحفظ في فتح مقابر اخرى املا في توثيق صحيح لتاريخ ومحتوى هذه المقابر. لاشك ان سرد جرائم النظام قد لا يسع هذا المقال لتعدادها ولا نظن ان هناك حاجة بعد هذه الفترة الطويلة للحديث عنها، غير اننا نحاول ان نشير الى المدولالات المعنوية والسياسية الى ثلاث جرائم رئيسة تختزنها الذاكرة العراقية وتتعلق بسياسات الاضطهاد العدوانية التي انتهجها النظام المقبور طوال العقود الماضية واشير تحديدا الى ضحايا الانتفاضة الشعبانية 1991 والتي يرمز اليها في ادبياتنا السياسية بالمقابر الجماعية وكارثة الانفال وحلبجة كجرائم ادانة واضحة للنظام، وهذا لا يعني ان نختزل عذابات الشعب العراقي وسياسات صدام الطائفية والقومية والعنصرية بهذه الجرائم البشعة ولكن ما يعنينا في هذه الفاصلة التأريخية ونحن نعيش ذكرى الانتفاضة هو عملية رصد لمستوى تفاعل الحكومة والمؤسسات الاخرى بهذه الاحداث وما انعكس منها على الواقع طوال الثماني سنوات لنتبين قدر الاهتمام بضحايا النظام البائد ونحن في خضم العملية السياسية.
-1 المقابر الجماعية
انتفاضة شعبان اذار 1991 مثلت في واقعها انطلاقة الحركة التغييرية في المنطقة ضد الانظمة الاستبدادية وعلى الرغم من الجهود الاقليمية والدولية التي اندفعت لاجهاضها لكن الشعب العراقي بقي يمتلك الحق في الافتخار برياديته في حمل راية التغيير التي نرى تفاعلاتها اليوم في المنطقة والساحة العربية عموما. وقدم الشعب العراقي جراء انتفاضته الشعبية مئات الاف من الضحايا الذين سحقوا بالقمع الصدامي في مناطق العراق المختلفة. فالمقابر الجماعية اصبحت تمثل رمزا كبيرا لاضطهاد النظام الصدامي لشعبه وادانة كبرى لابادة جماعية مارسها لقمع المنتقضين، وتشير المصادر الى اكتشاف اكثر من 360 مقبرة جماعية في مختلف محافظات العراق ومعظمها تحمل ضحايا الانتفاضة الشعبانية وقد وثقت معظم مواقع هذه المقابر وتم تسجيلها وانيطت مسؤوليتها الى وزارة حقوق الانسان على امل ان يتم فتحها ومعرفة ضحاياها.
الغريب في الامر وبعد مرور ثماني سنوات لم تتمكن الحكومات المتعاقبة بعد التغيير من ايلاء الاهتمام الكافي بابراز معالم الانتفاضة الشعبانية المتمثلة بالمقابر الجماعية واعتبارها رمزا عراقيا يختزن مأساة العراقيين ومظلوميتهم وتحديهم للاستبداد. والمبررات التي تساق في هذا الصدد منها فنية وادارية غير انها لا ترقى الى القبول عند معظم الاطراف. فالبعض يشير الى وجود جحود من السياسيين بحق ضحايا المقابر الجماعية واخرون يرون انه قصور على الرغم من شعور الكل بأهمية الحدث غير ان الظروف السياسية والاجتماعية تحول دون استكمال المشروع . في نهاية الامر ان كان جحودا او قصورا فالمواطن العراقي في محافظات الجنوب والوسط يعيش حالة من التغييب لاهم رمز جهادي يحكي قصة صراعه وانتفاضته ضد الظلم.
وفي الوقت الذي نشير الى هذه الحالة التغيبية والتهمشية ولو بأطاراتها المعنوية لابد من ذكر محاولات جادة جرت في هذا الصدد طوال الاعوام الماضية، منها ان دولة رئيس الوزراء المالكي شكل اللجنة العليا للمقابر الجماعية في عام 2007 لتأخذ على عاتقها مسؤولية الاهتمام بهذا الحدث التأريخي الكبير، غير ان فعالياتها وانجازاتها لم تنعكس على المجتمع بشكل واضح وجلي. وفي 16 أيلول 2006 اقيم في لندن اول مؤتمر دولي خاص بالمقابر الجماعية في العراق وكان من جملة توصياته تحديد يوم لاستذكار المقابر الجماعية، ولم تكن هذه الفعالية من بنات افكار المتصدين السياسيين بل قامت بها جهة عراقية اعلامية (المركز العراقي للاعلام والدراسات) ونشير في هذا الصدد بجهود الاخ طالب الرماحي في تصديه لهذه المبادرة. وقد استجاب السيد رئيس الوزراء لاحدى توصيات المؤتمر وتم اعلان 16 مايس من كل عام رسميا يوما للمقابر الجماعية في العراق باعتباره تأريخا لاكتشاف اول مقبرة جماعية كبرى في المحاويل. وقد اعقب ذلك بعام احتفال برعايته-اي السيد رئيس الوزراء- في بغداد للحديث عن الذكرى. ومن باب التذكير بالحقائق كانت هناك محاولة من الاخ الدكتور برهم صالح رئيس حكومة اقليم كردستان عندما كان نائبا لرئيس الوزراء في الحكومة الاتحادية بتفعيل الذكرى من خلال الاهتمام بالنصب التذكاري للانتفاضة في المحاويل. وكذلك اشارت قرارات وتوصيات بعض مجالس المحافظات الى ضرورة اقامة نصب تذكاري ومن خلال متابعتي المحدودة لم تنفذ اغلب المشاريع. هذا اهم ما احتوته مذاكراتي عن اهتمام الدولة للمقابر الجماعية. ولربما بمقدور وزارة حقوق الانسان الرد ان كانت تمتلك بعض التفاصيل عن الجهود المبذولة في هذا الصدد لكن المسألة لم تتحرك في الشارع العراقي بشكل حي وقادر على تشكيل رؤية لتخليد ضحايا الوطن.
-2كارثة حلبجة
قي مقابل ذلك، يستذكر الجميع فاجعة حلبجة في السليمانية والتي راح ضحيتها قرابة 5 الاف شخص بعد قصف النظام البائد منطقة حلبجة بالاسلحة الكيمياوية عام 1987 وتم استثمار الحدث اعلاميا وسياسيا منذ ذلك الحين لتسليط الضوء على جرائم النظام الغاشم ضد شعبه. واصبحت كارثة حلبجة جزءا من ذاكرة الشعب الكوردي حيث يندر زيارة مسؤول وطني او اجنبي دون ان يدرج في البرنامج زيارة حلبجة ووضع اكليل من الزهور على قبور الضحايا. وحسنا فعلت الجهات المسؤولة من تأسيس نصب تذكاري ضخم في حلبجة يحكي المأساة مدعما بالصور والوثائق ثم ترى هناك الالاف من الشواخص التي تحمل اسماء الضحايا في المقبرة تم اعدادها بشكل فني متميز فضلا عن احياء الذكرى السنوية للفاجعة في 16 من اذار سنويا حيث تقام الاحتفاليات ويشارك اهالي الضحايا في استذكار شهدائهم ولم يتوقف الامر عند حدود اقليم كردستان بل اصبح استذكار الجريمة والوقوف دقائق صمت في معظم المراكز الحكومية وهذا بحد ذاته موقف يذكرنا دوما بدكتاتورية وهمجية النظام وازلامه وضحايا النظام وفي هذا الصدد فقد صوت مجلس النواب قبل ثلاث سنوات باعتبار مدينة حلبجة تعرضت لجريمة ضد الانسانية.
-3جرائم الانفال
قبل عامين وتحديدا في كانون الثاني من عام 2009 شيعت رئاسة اقليم كردستان في اربيل جثامين مئات من ضحايا مجازر الانفال التي مثلت احد جرائم الابادة ضد الانسانية التي مارسها النظام الصدامي ضد العراقيين وراح ضحيتها عشرات الالاف من المواطنين. وجاء الاستذكار عقب نجاح الجهود الكردية في العثور على بعض المقابر الجماعية في محافظة المثنى والقادسية لمئات من الضحايا. وبالفعل تم فتحها وبمساعدة جهات فنية متخصصة والتعرف على هوية الضحايا ومن ثم نقل رفاتهم الى اقليم كردستان حيث اقيمت لهم احتفالية ضخمة جدا وبثت الفعالية عبر الاقمار الصناعية وحضرها المئات من الشخصيات والوفود الوطنية والاجنبية وشارك فيها ذووا الضحايا. كانت حقا مبادرة رائعة استشعرنا حينها امورا كثيرة منها دموية النظام البائد وديكتاتوريته الهجمية واساليب قمعه لانهاء الخصم السياسي وثانيا تكريم الضحايا الذين عمدوا بدمائهم طريق الحرية لذلك كان لزاما على المسؤولين الاهتمام و البحث والتفتيش عنهم واقامة المراسم بما يتناسب وحجم التضحيات وثالثا مواساة عوائلهم و تكريمهم وتعويضهم وتوفير مستلزمات معيشة عوائلهم. والواقع كان حدثا دراميا كبيرا ذكر الجميع ببشاعة النظام والتزام حكومة اقليم كردستان اتجاه الضحايا وعوائلهم وتذكيرا بان ثمن الحرية باهض لذلك فمسألة الحفاظ عليها تتطلب دوما التذكير بما قدمه الشهداء في هذا الطريق. وقد عد مجلس النواب قبل فترة وجيزة عمليات الانفال بانها جرائم ضد الانسانية.
-4 الموازنة
في اجراء موازنة بسيطة يتضح تباين ردود الفعل بشأن تكريم الضحايا وتخليدهم بالشكل الذي يستحقونه ضمن البلد الواحد. على الرغم من ايمان الجميع ان عظمة الامم تكمن في حجم ما تقدمه لتخليد الرموز والضحايا حتى امست احد المعايير الهامة لقياس عمق الوفاء والتبجيل لهم. بل نذهب الى ابعد من ذلك ان من ضرورات الاحتفاظ بهوية التغيير يجب طبعه ببصمات واضحة تصبح دالة لنا دوما نحو تحقيق الاهداف وتجنبنا تعثر المسيرة.
غير ان الشعب العراقي لم يتلمس بوضوح اهتماما كافيا من قبل السياسيين بمختلف اتجاهاتهم في مفردة المقابر الجماعية على الرغم من انها تمثل العلامة الفارقة في تأريخ العراق الجهادي المعاصر باعتبار ضخامة عدد الضحايا وبشاعة الجريمة المنظمة حيث لم يحدثنا التاريخ المعاصر للمنطقة والعالم ان تعرض شعب لمسلسل ابادة جماعية منظمة خلال حقبة حكم النظام البائد بمثل ما تعرض له الشعب العراقي وخاصة في الانتفاضة الشعبانية.
ومن غير المقبول ان نغيب بقصد او بدون قصد هذا الحدث الكبير الذي كان المنطلق في عملية التغيير بل من الواجب كما في حلبجة والانفال ان يكون الحدث ماثلا دوما امام الاعين لنعيشه ماضيا وحاضرا ومستقبلا. فالحكومة العراقية ومجلس النواب وباقي المؤسسات العراقية مطالبة اليوم بتحرك جاد لاحياء ذكرى المقابر الجماعية حتى تستشعر عوائل الضحايا بجزء من الوفاء لهم في اعناقننا وتتذكر الاجيال حجم التضحيات التي قدمها العراقيون في انتفاضتهم. ان هذا التحرك يجب ان يكون ضمن برنامج واضح غير ارتجالي يعبر عن حقيقة المشاعر وصدقها اتجاه ضحايانا فنحن في امس الحاجة اليوم الى جعل هذه المقابر شاهد اثبات على خطورة انظمة من هذا النوع على العراق والمنطقة والعالم. ان الاستذكار والعمل الجاد لوضع برنامج لحماية المقابر الجماعية وبذل الجهود للتعرف على هوية الضحايا وتحويل هذه المواقع الى شواخص حية نعيش ذكراها دوما لا يمثل الا الخطوة الاولى في تكريم شهدائنا، فمازال الكثير ينتظرنا اتجاه عوائل الضحايا والمنتفضين الذين غيبناهم بعمد في خضم صراعاتنا السلطوية وتناسينا الدماء التي دفعت بنا للسلطة. واذا كانت السنوات الماضية بمرها وحلوها اشغلتنا عن استذكار الحدث الكبير بالشكل المناسب نأمل ان لايمر السادس عشر من مايس هذا العام كما مر في السنوات الماضية. وللحديث صلة.