بين سيكولوجية الثورة وانفعالات حشود مشجعي فريق كرة القدم في محطات: تونس ـ القاهرة ـ بغداد !!!!
” عجبت لمن لا يجد القوت في بيته كيف لا يخرج على الناس شاهرا سيفه “
أبو ذر الغفاري
تأتي المقارنة بين غضب الثوار وبين انفعالات الحشود المشجعة لفريق كرة قدم ليست من باب العثور على قرينة لتفسير الفعل الثوري من خلال رده إلى نمط من أنماط السلوك الشائع وإيجاد تبرير إلى حالة الهيجان العام التي يتمتع بها كلا الفريقين, فالأسباب تختلف عند كلا الطرفين وان ارتبطت لديهما بمفهوم الحافز المحرك للسلوك ودافعيته, كما تختلف مراحل وتطور مسار الأحداث لدى الثوار من حيث يفترض أن تكون هناك بداية ونهاية مدركة لها, الأمر الذي ينعدم هذا لدى حشود مشجعي كرة القدم, حيث انعدام المبرر المنطقي للانفعالات السلبية وعدمية جدواها بسبب من انعدام المبررات و الأهداف الواقعية لها, إضافة إلى قصر مداها الزمني وعادة ما تنتهي إلى الإخماد والتآكل دون تحقيق أي أهداف. ويأتي حديثنا هنا من باب رد الاتهام الموجه إلى الثوار بأن انفعالاتهم هي نسخة طبق الأصل من انفعالات حشود مشجعي فريق كرة القدم, ونحن نعرف أن الأعراض إذا تشابهت بعض الشيء لا يعني في أحيان كثيرة أن الأسباب واحدة !!!!!.
أن دافع الفوز بالنسبة لفريق كرة القدم ينبغي أن تسبقه سلوكيات مكثفة من التدريب المتواصل للفريق على فنون اللعب وخططه, أي التخطيط لذلك, أما الهوام أو الحصر النفسي لدى الجمهور بالفوز بأي ثمن لحيازة الكأس فهو سلوك مقطوع الصلة بالفريق وإمكانياته, وهو سلوك ” الغاية تبرر الوسيلة “, فيشكل هذا السلوك دافعا للانفعالات السلبية الضارة, من اعتداء على الممتلكات العامة والفوضى العارمة والتقاتل مع جمهور أنصار الفريق الآخر, يصل أحيانا لحد الموت, دون القدرة على تقرير النتائج, لأن النتائج لا تقررها الأفعال العدوانية للجمهور, بل تقررها قدرات الفريق ومهارته, وهو لا صلة له بالجمهور المشجع, هذا النمط من التجمعات والسلوك الناتج عنه هو الذي نطلق عليه تجمعات ” الحشود القطيعية ” أو القطعان البشرية, حيث تسوقها الانفعالات البدائية المدمرة مما يجعلها بعيدة عن التفكير العقلاني والمنطقي ومستعدة لارتكاب اعنف الأعمال وأكثرها ضررا , يحركها التعصب الأعمى ونزعة الاستبداد والاستحواذ, وهي أسيرة اللاشعور حيث تنخفض لديها الطاقة الذهنية ومستوى التفكير العقلاني, وأن هذا السلوك القطيعي ليست حكرا أو خاصا بمشجعي فريق كرة القدم, بل يمتد وبشكل أكثر وضوحا لدى جمهور المتعصبين دينيا ومذهبيا وسياسيا وقوميا وغيرها من التجمعات ذات الصبغة المنكفئة على الذات !!!!!.
أما الجوع الذي يحرك الثورات أو كما يقال ” الجوع أبو الصراع الطبقي ” فهو دافع غريزي يترتب عليه سلوك الحصول على الطعام, وهو على المستوى الفردي يرتبط بسعي الإنسان, والذي يفترض أن يكون نزيها, في الكدح والعمل من اجل تأمين لقمة العيش ولإشباع دافع الجوع, أما الجوع الجماعي المرتبط بالفساد والاستغلال وسوء توزيع الثروات فيكون وثيق الصلة بالتخطيط للفعل الثوري لأنه وثيق الصلة بالكرامة الإنسانية أو كما يقول المثل الايطالي” الجوع ألد أعداء الكرامة “, وأن الهدف من مجمل الأفعال الثورية الناتجة عن هذا النمط من الفقر هو إعادة توزيع الثروات بشكل عادل من خلال إعادة صياغة علاقات الإنتاج بين أطرافها الأساسية بشكل ايجابي !!!!.
أن الجماهير حين تعاني من الفقر طويلا وتستشعر الظلم أو الطغيان أو إهدار الكرامة قد تسكت لبعض الوقت ولكنها عند نقطة تنفجر انفجارا قد يبدو مفاجئا ولكنه ليست كذلك, فتتحول إلى قوة مدمرة للسلطة, وقد يمتد أثره إلى ابعد من السلطة, فالغضب الجماهيري يكون مثل الطوفان لا يعرف احد إلى أين سيتوقف ومتى, فبركان الغضب الخالص يسعى نحو التدمير والتغير ولا يوجد ميزان حساس في هذه الظروف يوازي بين قدرة تدمير النظام الحاكم ومؤسساته القمعية المرفوضة وبين قدرة التميز لحدود التغير المطلوب, ويزداد حدة أكثر عندما تنعدم القيادة الميدانية للأحداث, أي أن الانفجار يحدث في بدايته كبراكين غضب دون ترتيب سابق ودن هدف محدد غير الانتقام ممن قهرها وأذلها وجوعها وخدعها, لقد جسد هذا النموذج من الانفعالات بشكل صارخ في الحالة العراقية بعد سقوط النظام السابق, وجسدته بشكل اخف وطأة وأقل تأثيرا من الناحية السلبية في الحالتين التونسية والمصرية !!!.
ن الثورات اليوم لا ينطبق عليها المفهوم التقليدي ” للثورات المنظمة ” كما كان يحصل في عقود خلت, حيث الأحزاب تقرر مسبقا مستوى النضج الذاتي للبدء بالأفعال الثورية, تعقبها ” ساعة الصفر “, فالأمر اليوم معكوس تماما, حيث تبدأ الجماهير دون سابق إنذار بإعلان الثورة ثم تطلق دعوتها للأحزاب والقوى السياسية للالتفاف حولها, فالجماهير هي القائد الميداني للأعمال الثورية, أما دور الأحزاب فيأتي متأخر نسبيا عن الحدث ليحول مشاعر الثوار إلى برامج سياسية ملموسة كما يضفي على مسحة الغضب الثوري بعدا أكثر منطقية من خلال ارتباطه بأهداف مصاغة ومقننة ” على افتراض توفر حالة النضج السياسي لدى الأحزاب من خلال تمثل قيم الوطن والمواطنة باعتبارها مصلحة عليا “!!!!.
ذا كانت الثورة الاجتماعية تعرف بأنها ذلك التغير الجذري, الذي يشمل البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية كافة, وتشكل تغييرا جذريا شاملا في المجتمع يؤدي إلى أحلال تشكيلة اجتماعية اقتصادية بأخرى أرفع مستوى وأكثر تقدما. وأنها تغيير جذري للنظام القديم, وإقامة نظام جديد ومؤسسات جديدة. أي إنها في الإطار العام قفزة للمجتمع من مرحلة إلى أخرى أكثر تقدما وتطورا ورقيا, فأن عوامل إحداثها اليوم يفوق حصرها في عوامل الفقر فقط, وان كان شرطا لازما لها, ولكن الثورة اليوم هي فعل مركب تتضافر فيه الكثير من العوامل في عالم متغير بدون انقطاع, فليست كل من جاع ثار على أوضاعه القائمة, وقد يكون هذا التعقيد في أسباب الثورات اليوم هو احد العوامل الأساسية التي جعلت الأحزاب السياسية تتأخر عن الحدث نسبيا, أما أهم ابرز عوامل الثورات فيمكن إيجازها فيما يأتي: الفقر وسوء توزيع الثروات وانعدام فرص العمل والتشغيل؛ انتشار الفساد المالي والإداري وتأصله في الكثير من المجتمعات وهو جلي في الحالات التونسية والمصرية والعراقية؛ الانخراط الواسع في منظومة الاتصالات العالمية الحديثة واستعمال الوسائط الرقمية بكفاءة عالية وخاصة المنتديات الاجتماعية مثل الفايسبوك والتويترر واليوتوب وتشكيل منظومة من الاتصال الجماعي والإعلام الشعبي الموازي والمهدد لأعلام السلطات القمعية؛ الانفجار السكاني الهائل وارتفاع نسبة المواليد والتي تصل في الدول العربية إلى أكثر من 3% وهو نذير بمزيد من الفقر والمعاناة في ظروف عدم التوزيع العادل للثروات مما يخلق حالة من الوعي المتوقع بمخاطره كما تشكل فئة الشباب الكتلة الأكبر في التركيبة السكانية وذات المصلحة الأساسية في التغير؛ ازدياد الوعي والحماس اللازمين للتغير والذي يدفع صوب المزيد من الغليان الشعبي والغضب العام وتولد الاستعدادات الكبيرة للتخلص من النظم السائدة وإتباع كافة الوسائل بما فيها غير المعقولة والانفعالية والتي شاهدنا مظاهرها في التجربتين التونسية والمصرية؛ حالات اليأس الشديد من القيادات السياسية والدينية وتعويل الشباب على أنفسهم في قيادة التغير بعد المزيد من الإحباط والوعود الكاذبة في تحسين ظروف العيش والحياة الحرة, والحالة العراقية اليوم نذيره بمزيد من الانتفاضات الشعبية الناتجة من ضنك العيش وفقدان الثقة بالسياسين وخاصة بعد مرور ثماني سنوات على التغير دون جدوى؛ توظيف الموروث الفكري والسياسي والثقافي المناهض للفقر والحرمان وانعدام الديمقراطيات, ويشكل فكر اليسار الديمقراطي والقوى الوطنية قوة جذب نحو التغير لا يمكن التقليل من شأنها وقد بدأت ملامحها تتضح في الحالة العراقية في الكثير من الاحتجاجات والمظاهرات من خلال الشعارات ومستوى التنظيم والعطاء والمضي قدما لتحقيق الأهداف !!!!.
أن السياقات السيكولوجية التي يختمر فيها التغير الثوري تمر بمراحل تكاد تكون محكمة , وقد تتداخل فيما بينها استنادا إلى عوامل التعجيل” العامل الذاتي ومستوى التنظيم “, ولا صلة لها, حتى من حيث انفعالات الثوار بسيكولوجية مشجعي فريق كرة القدم ” وان بدأت متشابه في بعض من أعراضها الأولى “, فهي مراحل تجسد علاقة القهر والاستبداد بين الحاكم المتسلط والإنسان المستضعف أو المقهور, وبالتالي فهي علاقات نفسية معقدة, وقد يبدو للبعض أن الثورة التونسية هي محض صدفة أطلقتها صفعة البو عزيزي وحرق نفسه وامتدت شرارتها إلى مصر والعراق دون سابق ممهد أو إنذار, ونحن نعرف أن النظم الدكتاتورية والظالمة والمستبدة لا تسقط بزلة لسان أو بخطأ ثانوي تقوم به, بل أن سقوطها يمر عبر تراكمات نفسية ـ اجتماعية يترك أثره البالغ في انضاج الثورة الاجتماعية, ثم يأتي الحدث المفاجأة ليقرر ساعة صفرها القاتلة, أما ابرز المراحل النفسية والاجتماعية التي يمر بها الفرد المواطن بالمتسلط الحاكم والتي تعكس بمجملها جانبا من الوجود, فأشير إليها بتصرف والتي ذكرها الدكتور مصطفى حجازي في كتابه ” التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور ” فهي ما يأتي:
ـ المرحلة الأولى: الرضوخ والقهر خلال هذه المرحلة, التي تدوم فترة طويلة نسبيا, يشكل زمن الرضوخ والاستكانة أو الفترة المظلمة من تاريخ المجتمع, عصر الانحطاط, وتكون قوى التسلط في أوج سطوتها, وحالة الرضوخ في أشد درجاتها. وأبرز ملامح هذه المرحلة هو اجتياف (أستدخال) عملية التبخيس التي غرسها الحاكم المتسلط في نفسية الجماهير, فيكره الإنسان نفسه ويوجه عدوانيته تجاه نفسه وتجاه أمثاله, ومن ثم يقوم بإزاحة هذه العدوانية ليمارسها تجاه من هو اضعف منه. ومن الملامح الأخرى هو الإعجاب بالمتسلط المستبد وتضخيم تقديره, فيعطيه حقا شبه إلهي في السيادة والتمتع بكل الامتيازات, وبالتالي تنشأ علاقة رضوخ ” مازوخي ” من خلال الاعتراف بحق المتسلط بفرض سيادته, وتنشأ في هذه المرحلة مجموعة من العقد التي تميز حياة الإنسان المقهور أو المضطهد أهمها: عقدة النقص, وفقدان الثقة بنفسه وبأمثاله, والتي تجعله يحجم عن كل جديد, ويتجنب كل تجربة قد تساهم في تغير وضعه, لذلك فهو لا يحرك ساكنا, وإنما ينتظر ذلك البطل المخلص الذي سينتشله مما هو فيه, وهذا ما يمهد الطريق للتعلق بالزعيم الفرد, تعلقا يغري بالتسلط والدكتاتورية, إن هذه الأفكار تجعل عملية التحديث تجابه بمقاومة شديدة تحبط البرنامج التنموي. أما عقدة العار فهي تجعل الإنسان يخجل من ذاته, ويعيش وضعه كعار وجودي يصعب تحمله, فيتمسك بالمظاهر لتشكل غطاء لبؤسه الداخلي, ولابد للمتسلط دورا في تحويل انتباه الإنسان المقهور من حالة الذل والقهر التي يعيشها إلى أمور ثانوية, وبذلك يحمي المتسلط نفسه من ثورة المقهورين. وأخيرا وليس آخرا يعاني المقهور من اضطراب الديمومة, حيث أن طول المعاناة وعمق القهر والتسلط الذي فرض عليه ينعكس على تجربته الوجودية للديمومة على شكل تضخم في آلام الماضي, وتأزم في معاناة الحاضر وانسداد آفاق المستقبل, ويتفاعل هذا مع عقدة النقص وعقدة العار, مما يغرق الإنسان في ضعفه وعجزه واستسلامه إزاء قوى تتحكم في مصيره, ويحس انه لا قدرة له على مجابهتها !!!!.
ـ المرحلة الثانية: الاضطهاد وفيها يبدأ الإنسان بتحويل حالة الغليان العدوانية التي كانت موجهة ضد نفسه إلى الآخرين , بعد عدم تمكنه من كبتها بالآليات التي استخدمها في المرحلة الأولى. انه يحول عدوانيته إلى الذين يشبهونه, أن جوهر هذه العملية هو التفتيش عن مخطئ يحمل وزر العدوانية المتراكمة داخليا, وبذلك يتخلص من شعوره بالذنب ومن عاره وعقد نقصه ويصبها على الآخر, متهما إياه ” بشكل توهمي ” أنه يحسده ويريد أن يؤذيه, وهكذا يصبح العدوان عليه مبررا فهو دفاع عن النفس ليس إلا. إن هذا التفريغ والتحويل للمشاعر السيئة الداخلية تجاه الآخر المقهور مثله ينفع مؤقتا في تخفيف التوتر الداخلي للإنسان المقهور, لكن ذلك يفشل في تخليصه وإراحته على المدى البعيد, مما يجعله ينتقل إلى المرحلة الثالثة !!!!.
ـ المرحلة الثالثة: التمرد والمجابهة عندئذ يصبح العنف المسلح وغير المسلح هو السبيل ليتخلص الشعب من عقدة النقص والجبن والخوف التي غرسها الحاكم المستبد في عروقه, وهو يحقق بذلك ذاته وينفض عن نفسه الكسل والجهل والاتكالية, وقد يكون العنف والغضب في البداية معيقا لإمكانية التفكير والتنظيم, ولكنه يفتح المجال لكل الاحتمالات, فأما إعادة دورة العنف أو الانطلاق إلى رحاب التغير السلمي الهادئ والتأسيس لمرحلة قادمة ذات صبغة تقدمية, وهذه الاحتمالات وثيقة الصلة بمن يقود عملية التغير !!!.
ونحن إذ نقف إلى جانب ثورات وانتفاضات شعوبنا في تونس ومصر والعراق وغيرها, فنحن بأمس الحاجة إلى دور مميز للفكر والسلوك الاستراتيجيين الذي يغيب كل الغياب عن ساحة الصراع, حيث لا تزال قراءتنا للأحداث قراءة انفعالية وذات صبغة إيديولوجية متحيزة, ولكنها صادقة لأنها صادرة من الأعماق في الرغبة للإصلاح الجذري, وتصل بعض الأحيان إلى نمط من القراءة الانتقامية, لأننا نحمل “عقدة الثورة ” والتي قد تصل الأمور إلى أبواب موصدة, وهي قراءة نافخة في الجماهير, ولكنها لا تحمل البديل المطمئن, وهذا ما يعزز فسحة الفراغ السياسي والذي قد يؤدي إلى فقدان بوصلة التغير وانحرافها عن أهدافها المتوخاة, وأختزل بما اقصد به بقول نجيب محفوظ: ” أن الثورة يخطط لها الدهاة وينجزها الشجعان ويغنمها الجبناء ” !!!!!!!!!!!!.