297
الوعي السياسي كعنصر أساس في بناء النظام السياسي الديمقراطي
الجامعة المستنصرية / بغداد
يمثل الوعي بشكل عام الوعي السياسي بشكل خاص الركيزة الاساسية التي يبنى عليها النظام السياسي والاجتماعي, اذ ان أغفال موضوع الوعي في عملية بناء الدولة ستعني البناء على أسس من الرمال, أذ لن يصمد مثل هذا البناء أمام أي أزمة قد تمر بها الدولة أو المجتمع مهما كان حجم البناء السياسي أو العمراني, وهناك تجارب تاريخية عديدة يمكن أيرادها كامثلة على هذه الحقيقة. هذه الفرضية نضعها كأساس لدراستنا عن أهمية الوعي السياسي في بناء الدولة والمجتمع وكيفية تعميقه ليكون أساسا صلبا للتجربة الديمقراطية.
ستجيب الدراسة على مجموعة من الاسئلة من بينها:-
1- ماهو مفهوم الوعي السياسي؟
2- من هو المسؤول عن أشاعة الوعي السياسي لدى الأفراد ؟
3- ماهو الرابط بين الواقع الاجتماعي والاقتصادي للافراد وبين وعيهم السياسي ؟
4- ماأثر الوعي على استقرار المجتمع وترسيخ المنهج الديمقراطي؟
5- ماهي العوامل المساعدة على تعميق الوعي السياسي؟
أولا/ مفهوم الوعي والوعي السياسي
نرى ان مفهوم الوعي يشير الى أستخدام الفرد للعقل بشكل بناء وسليم لتكوين تصورات وبناء أحكام , فالوعي هو الادراك العقلي للتجارب والمتغيرات المحيطة وبالتالي تصبح للفرد القدرة على تكوين موقف محدد اتجاه الواقع الذي يعيشه. والوعي بهذا المعنى هو عكس الغفلة والتي تعني السلبية في التعامل مع الواقع بعيداً عن استخدام العقل والمنطق في تبني المواقف,والغفلة هنا قد تكون ناتجه عن بالتخلف او التعصب او الامية او القهر.
كما ان مفهوم الوعي الذي وضعناه يشير الى ان امتلاك الانسان للعلوم والثقافة والمركز الاجتماعي والسياسي لا يمثل الجانب الاساس من هذا المفهوم,وانما يجب ان يقترن كل ذلك بأخلاقيات وقيم سامية وذوق وحسن أختيار ومعرفة عميقة لمعنى الجمال ,لان اغفال هذه المعاني يعني الغاء لجانب مهم في الادراك العقلي للمتغيرات المحيطه وهذا ياتي كما اشرنا في حالات التعصب وغيرها.(1)
اما مايخص الوعي السياسي فتشيراليه الادبيات الاجتماعية والسياسية (بالثقافة السياسية) وهي رؤية ومعرفة عقلية لما يحيط بأفراد المجتمع السياسي من أفكار وممارسات واختلافات سياسية يستطيع من خلالها ادراك محيطه السياسي واتخاذ الموقف المناسب ومن ثم التفاعل والتاثير البناء في مجمل العملية السياسية.ولابد ان نشير هنا الاان مفردة المجتمع السياسي نقصد بها المجتمع الذي تشمله سلطة الدولة ونظامها السياسي وهو يختلف بطيبعته القانونية عن سائر السلطات الاخرى كسلطة العشيرة والسلطة الدينية والسلطة العائلية والتي يشار اليها بالمجتمعات غير سياسية .
لقد ركز الفكر السياسي الانساني على اهمية الوعي السياسي (الثقافة السياسية)في بناء الانظمة الديمقراطية وهذا مااشار اليه جميع الفلاسفه والمفكرين ابتداءً من العصرالاغريقي الذي وصفوها بمصطلح (الفضيلة المدنية) وربطوها مع القيم الديمقراطية. واشاروا ان اولى حالات الوعي السياسي جاءت نتيجة الحاجة الانسانية للاجتماع وتكوين السلطة عندما اضطر الانسان في محاولة منه لتأمين الغذاء والحماية الى الانتظام في مجتمعات سياسية لها اطار سلطوي عبر عنه بالقبيلة و القرية والمدينة والدولة .(2)
وهذا ماذهب اليه مفكري ( العقد الاجتماعي) مثل هوبز وروسو ولوك غيرهم عندما اشارو الى حالة المجتمع المضطربة التي ادت الى تنازل الافراد عن حقوقهم السياسية لصالح السلطة مقابل ضمان الغذاء والامن, واعتبروا ذلك بدايات لما عرف بالوعي السياسي لدى الافراد والمعبّرعنه بالحاجة الى التنظيم السياسي لادارة المجتمع والدفاع عنه .(3)
الا ان مرحلة وضع الاسس الاولى للمجتمع السياسي وقيام الدولة افرز الحاجة الى قيم اخرى غير الغذاء والامن الا وهي العدالة وتآمين الحريات الفردية الامر الذي دعا عدد من المفكرين الى طرح مبادئ وقيم سياسية اطلق عليها المبادئ الديمقراطية , والتي كانت اساسا لثورات وحروب وانتفاضات هزت المجتمعات الانسانية عبر القرون السابقة وادت الى ظهور انظمة مختلفة من بينها الانظمة الديمقراطية والتي من ابرز اسسها الوعي السياسي في المجتمع .
ثانياً/اسباب ضعف الوعي السياسي…
1- طبيعة النظام السياسي, اذ ان من أهم ميزات الانظمة الشمولية تحديد قدرة الافراد على التفكير السياسي وجعل هذا التفكير يدور ضمن خطط محددة تخدم هذه الانظمة ويصب في استمراريتها مما يؤدي الى ابتعاد الافراد بشكل عام عن التعمق بالثقافة السياسية كالدستور والحقوق والواجبات وصلاحيات السلطة وغيرها, لان هذه كلها تعتبر من المحرمات في مثل هذه الانظمة مما يسهم في ضعف الوعي السياسي للافراد وتعميق حالة الاستغفال والتخلف .
عند التغيير لم تحل مشكلة الوعي السياسي لدى الجماهير اذ بدأت القوة السياسية ومن اجل مصالح ضيقة تلعب على ضعف الوعي السياسي الذي كان سائدا في المرحلة السابقة وعملت على تعميق الاختلاف المذهبي والقومي والعشائري خدمةً لاهدافها المرحلية .
2- التخلف الاجتماعي… اذ ان اهم سمات هذا التخلف ألامية , التعصب ,الاتكالية,الانغلاق, المزاجية, الانبهارغير الواعي وتهميش دور المرأة . وهذا بالتاكيد لم يكن وليد هذه المرحلة وانما هو تخلف تراكم عبر عقود من السيطرة الاجنبية وعدم الاستقرار والدكتاتورية.(4)
3- ضعف العدالة الاقتصادية …وهذا الامر ايضا يعود الى المراحل التي عاشها المجتمع والتي عانى خلالها من الاستغلال الاجنبي والمحلي وعدم جدية الحكومات المتعاقبة على حل المشاكل الاقتصادية لاسيما البطالة وتوزيع الثورة والتصنيع وغيرها ,فضلا عن انعكاس الظروف السياسية على الواقع الاقتصادي مما انعكس بالتالي على حالة المجتمع الثقافية بشكل عام والوعي السياسي بشكل خاص اذ ان من ابرزعوامل تراجع الوعي هو الفقر والبحث عن لقمة العيش التي لاتسمح للآنسان بان يطالب بحقوقه السياسية التي تتيح له المشاركة في النشاطات السياسيةبمختلف اوجهها.ونرى ان سياسية التجويع هي احدى وسائل الانظمة لاضعاف الوعي واحباط المجتمع ومنعه من محاسبتها الامر الذي قد يدفع الى مايطلق عليه بالثورة الشعبية وهي في الواقع اندفاع غير واعي للجماهير المقهورة طلبا للخلاص مما ينتج عنه انهيارا شاملا لمرتكزات المجتمع وبروز حالة جديدة لاتعرف نتائجها.
ثالثاً/ملامح ضعف الوعي السياسي …
1-ازمة الهوية: وتتعلق بعدم معرفة افراد المجتمع السياسي لهوية نظامهم السياسي وطبيعته فهل هو نظام قبلي ام ديني ام علماني ام غير ذلك الامر الذي يجعل الصورة غير واضحة ومشوشه لدى الافراد مما يجعلهم غير قادرين على تحديد حقوقهم وكيفية التعامل مع المواقف والاختلافات السياسية .
2- أزمة الاندماج الاجتماعي : نتيجة التخلف الذي يعاني منه المجتمع لاسيما على الصعد الاجتماعية والاقتصادية وهي اثار متراكمة كما ذكرنا عبر عقود طويلة من القهر والحرمان جعلت الافراد يلتفون حول تقسيماتهم الطائفية والعشائرية او القومية الامر الذي ساعد على عكس هذه التقسيمات على الواقع السياسي وبالتالي اصبح الوعي السياسي بالمفهوم الذي اوردناه يغيب عن المجتمع ويحل محله التعصب والانحياز غير الواعي .
3- ازمة المشاركة :نتيجة لشعور افراد المجتمع بان الواقع السياسي الجديد لم يحل مشاكلهم الاجتماعية والاقتصادية وان النخب السياسية منشغلة في الصراع على السلطة ومكاسبها والتي هي بالتاكيد بعيدة عن هموم الناس واهدافهم كل ذلك يجعل الفرد يعزف عن المشاركة السياسية وبذلك تصبح العملية الديمقراطية شكلية وغير ناضجة.
رابعا/ ماهي العوامل المساعدة على تعميق الوعي السياسي ؟
في البدء يجب ان نؤكد على ضرورة التوازن بين الواقع الذي عليه المجتمع وبين مانصبوا اليه بعيدا عن التوهمية والطوباوية . اذ ان تحول السياسي الذي ينقل المجتمع من حالة النظام الشمولي المنغلق الى حالة النظام الديمقراطي المفتوح دون المرور بحالة الاستعداد النفسي والفكري قد يُحدث حالة من فقدان التوازن الاجتماعي وهذا ما لاحظناه مع بداية التغيير,الامر الذي يجعل الحاجة ماسة الى اعادة التوازن للمجتمع قبل كل شئ من باشاعة الامن والانضباط من ثم البدء بعملية تعميق الوعي السياسي وذلك من خلال :
1- انبثاق الاطر السياسية الفاعلة التي تشكل النظام السياسي بكافة مستوياتها انطلاقا من اطر فكرية وايديولوجية وطنية تهدف بشكل حقيقي بالفعل والقول لبناء نظام ديمقراطي سليم بعيدا عن المصالح الضيقة والاهداف الانية الامر الذي يعزز ثقة المواطن بتلك القوى وبالتالي تسهل عملية التاثير الايجابي بينها وبين المواطن
2- التدرج في توعية المجتمع وتعريفهم بحقوقهم وواجباتهم وترسيخ مفهوم المواطنة بشكله الحقيقي بعيدا عن التعصب المذهبي او القبلي او القومي وبعيدا عن ربط المواطنة باشخاص اواحزاب وجعلها وفق المفهوم الحقيقي المتمثل بلالتصاق بالوطن تأريخا وارضا وشعبا وقيما.
3- تنظيم علاقة المواطن بالدولة من خلال ايجاد قوانين عادلة تحقق المصلحة المشتركة للدولة والفرد .
4- تعميق مبدء الحوار في حل الخلافات السياسية بعيدا عن التطرف كون ان التطرف هو من سمات المجتمع البدائي وهذا من صلب واجب القوى السياسية المتواجده على الساحة والتي يجب ان تعطي نموذجا صالحا للافراد وهنا نستذكر قولاً للامام الشافعي (رأينا صحيح قابل للخطأ ورأي غيرنا خطأ قابل للصح).
5- اشاعة مفهوم الاغلبية والاقلية بشكله السليم , اذ ان ماروج له بعد التغييير ان الاغلبية والاقلية انما هي اما مذهبية او قومية وبالتالي تصبح اغلبية دائمية واقلية دائمية,وهذا خطأ جسيم في تطبيق مفهوم الديمقراطية لان مفهوم الاغلبية والاقلية هو مفهوم سياسي بحت يتبع المنهج الذي تتبناه مجموعة سياسية لادارة الدولة وهو ليس عقيدة دينية او مذهبية او عرقية لان هذه المفاهيم مفاهيم اجتماعية لذلك فان الاغلبية هي مؤقتة ويمكن ان تكون اقلية في دورة انتخابية اخرى وبالعكس وذلك انطلاقا من طبيعة برامجها السياسية وقناعة المجتمع بها .(6)
6- اشاعة الثقافة والذوق العام وابراز مفهوم الجمال بكل جوانبه الروحية والاخلاقية والمظهرية في المجتمع ويكون ذلك بواسطة المؤسسات الرسمية وغير الرسمية لاسيما المؤسسات التعليمية منها بدءا من المراحل الدراسية الاولى صعودا وذلك من اجل بناء جيل يمتلك الثقافة والوعي ليسهم في تعميق التجربة الديمقراطية حتى تصبح مع مرور الزمن تجربة ناضجة تحاكي التجارب الديمقراطية العريقة .
7- اشاعة مبدء العدالة الاقتصادية من خلال حل المشاكل المعيشية للمجتمع كالبطالة والفقر والعدالة في توزيع الثروة, اذ ان تلك المشاكل هي من ابرز معوقات الوعي بشكل عام والسياسي بشكل خاص. ان الدولة الديمقراطية وهي دولة مؤسسات تتطلب قبل كل شئ الاستقرار السياسي وهذا يتحقق عبر تعميق الوعي السياسي لدى افراد المجتمع وشعورهم بان مؤسسات الدولة هي المعبرةعن ارداتهم ورغباتهم وتستوعب نشاطاتهم وانهم جزء منها .وكلما كان الوعي السياسي حاضرا ومتأصلا او متجذرا لدى اغلبية افراد المجتمع نرى ان القوة السياسية الفاعلة تجد نفسها مضطرة لاتباع مناهج عقلانية في مشاريعها السياسية وذلك في محاولة لاقناع الافراد بتلك المشاريع وبالتالي يكون من الصعب بمكان استغفال الجماهير والعزف على المشاعر البدائية كالتحفيز الديني او الطائفي او القومي او المناطقي.
انه من الواضح ان الانتقال من حالة الانظمة الشمولية الى الحالة الديمقراطية لاتكون بشكل آلي وسريع لان التجارب الديمقراطية تحتاج فسحة من الزمن تطول او تقصر حسب طبيعة المجتمع ونظامه , فبريطانيا التي تمثل اعرق الديمقراطيات الحديثة احتاجت الى اكثر من ستة قرون حتى تنضج العملية الديمقراطية فيها ويتعمق الوعي السياسي لدى ابناء المجتمع البريطاني وتخلل هذه القرون الطويلة ارهاصات واحداث عنيفة ادت في النهاية الى استقرار المجتمع سياسيا واجتماعيا واقتصاديا .فمنذ عام 1215م عندما وقع الملك الانكليزي ما اطلق عليه بالعهد الاعظم (الما كناكارتا ) والذي فيه اقرار لتقليد سلطة الملك لصالح ممثلي الشعب بدء المجتمع الانكليزي رحلة البناء الديمقراطي التي اتخذت اتجاهين الاول سياسي تمثل بالمكاسب التي حصل عليها البرلمان على حساب سلطات الملك والاتجاه الثاني فكري تمثل بظهور عدد من المفكرين الذين عملوا على انضاج الفكر الديمقراطي ومن ابرزهم جون لوك الذي وضع الاسس الفكرية لما اطلق عليه بالثورةالجليلة عام 1688 م والتي صدرت خلالها لائحة الحقوق وفيها تحديد واضح لصلاحيات السلطات التنفيذية والتشريعية . واشار لوك الى المبادئ الاساسية لحقوق الافراد الطبيعية وان وجود الحكومة هو لحماية هذه الحقوق وليس التعدي عليها. لقد تمكن الشعب البريطاني من استيعاب وهضم الافكار الديمقراطية التي اصبحت جزءا من تكوينه النفسي والفكري ساعده على ذلك وجود سلطات احترمت الاعراف والقواعد الديمقراطية الامر الذي جعل المجتمع البريطاني لايتاثر بالهزات التي تعرضت لها المجتمعات الاوربية كما حصل في ايطاليا والمانيا اذ ان بريطانية لم يظهر فيها قادة امثال هتلر او موسوليني او ستالين لان المناخ الشعبي والواعي والمدرك لايسمح بظهور مثل هؤلاء القادة الذين يعملون على التلاعب بالمجتمع من خلال الشعارات القومية اوالايدلوجية. ان تعمق الوعي السياسي لدى افراد المجتمع هو احد عوامل الاستقرار الاجتماعي والسياسي الذي سينعكس حتما على تطور العمراني والسياسي .