العدل في لفظه ومعناه ، من أجمل ما تناولته قواميس الشرائع السماوية منذ خلق الله الإنسان ، وانتبهت الشعوب المتحضرة غير المتدينة لآثاره الطيبة ، فاحتفظت به دون غيره من قوانين السماء ، وابتنت عليه أسس أنظمتها وقوانين تداول السلطة والعلاقة بين الحاكم والمحكوم خلال القرون القليلة الماضية ، وأطلقت عليه ( أي العدل ) بالديمقراطية أو الحرية وحقوق الإنسان ، وأسست لذلك الكثير من المنظمات التي تحافظ من خلالها على جوهر العدل ، كمنظمة العفو الدولية ووثيقة الحقوق الدولية المسمى بإعلان روما ، ولا أعتقد أن تلك الشعوب سوف تتخلى عنه وقد وجدت فيه قمة سعادتها وارقى السبل للتعايش السلمي فيما بينها . وكان الشعار الذي أطلقته تلك المنظمات الدولية وهو ( إن الحقوق تؤخذ ولا تمنح ) من أدق الشعارات التي تنسجم وطبيعة النفس البشرية ، وهو ينسج تماما مع ما ورد في الديانات السماوية ، التي أقرت بهذا المبدأ من خلال التشريعات التي تجبر الإنسان على احترام حقوق الآخرين ، وهو صريح في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وفي نظام العقوبات الجزائية في الفقه الإسلامي . فالأنظمة مهما تعددت أساليبها في الحكم ، تتحول إلى أنظمة شمولية مقيتة بمجرد أن تتخلى عن مفهوم العدل ، والأخطر من ذلك أن غياب العدل لدى الشعوب ( وإن كانت مؤمنة بالله والرسل ) مع مرور الزمن يخلف لديها طباع شاذة ، تتعامل وتتعايش معها على أنها خلق طبيعية لاتتناقض مع سياق الحياة الإنسانية التي يريدها الله وتميل إليها الفطرة ، فتتحول تلك الشعوب من حيث لا تدري إلى شعوب تستحوذ عليها مظاهر شيطانية شاذة كتغليب المصالح الذاتية والكذب والجشع وغياب الورع وغيرها ، فيطغى تبعا لذلك القتل والفقر ويستخف بقيمة الإنسان وحريته وكرامته . وهذه الشعوب حتى لو قدر لها أن تتخلى عن انظمتها الشمولية وتخرج من بينها دعوات مخلصة لتطبيق العدل ، فإنها سوف لن تستطيع أن تتخلص من تلك الطباع الشاذة ونتائجها السلبية قبل مرور عشرات السنين ، لأن آثار غياب العدل لدى العقل الجمعي أو لدى النفوس كأفراد ليس من السهل محوها ، فالزمن قد خلق منها لدى المجتمع والأفراد ما يشبه البديهيات والقناعات العقلية التي هي بحاجة إلى جهود كبيرة لإزاحتها بالتدريج وهذا بحاجة إلى زمن طويل ربما بحاجة إلى أن تتغير تلك الأجيال التي عاصرت غياب العدل . لقد نبه عن ذلك أمير البلغاء بقوله عليه السلام لبعض أجناده : فإنما أهلكَ من كان قبلكم أنهم منعوا الناس الحقَّ فاشتروه ، وأخذوهم بالباطل فاقتدوه . أي اصبح الباطل قدوةً في حياتهم وأحد طباعهم .
ليس ثمة ما هو أحب إلى الله من العدل ، وجعله اساس لملكه وفرضه في كل كتبه السماوية ، وأمر بإشاعته في كل المجتمعات ، لأنه مقدمة لتحقيق أهدافه في الأرض ، فيقول في كتابه الكريم : ( إنَّ الله يأمرُ بالعَدلِ والإحسَان … النحل 90) ، وورد في الحديث الشريف ( أنَّ عدلَ ساعة أفضل عند الله من أن تعبده ثمانين عاماً ) ، وقد بين القرآن بما لايقبل الشك في أن الله قد أرسل الأنبياء ليعلموا البشرية كيف تمارس العدل وتبتعد عن الظلم ، وقد ورد هذا المعنى واضحا في قوله : (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ) ، و المخاطب هنا الناس جماعة وأفراداً حاكمين ومحكومين ، وكان الأنبياء والرسل عليهم السلام الذين حملوا هذا التكليف الخطير مثالاً لإقامة العدل وقد تجسد في كل ممارسة في حياتهم صغيرة أو كبيرة ، ونبينا عليه السلام كان أعدل الناس مع نفسه وأهله وولده وأصحابه بل وحتى مع مناوئيه .
العدل إذن أساس الإيمان ، هذا ما أكده القرآن والسنة النبوية وقد تجلى بأحلى صوره في إخلاقية وسيرة الأئمة عليهم السلام ، ولعل من اجمل ما ورد في تبيان هذا المعنى ما ورد في عهد الإمام علي عليه السلام لمالك الأشتر حين قال : ( ولا يكون المحسن والمسئ عندك بمنزلة سواء ، فإن في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان ، وتدريباً لأهل الإساءة على الإساءة ، وألزم كلاً منهم ما ألزم نفسه ).
حب العدل يولد مع الإنسان بالفطرة ، وهو أحد الأركان الرئيسية للتقوى التي وردت في القرآن في قوله تعالى ( ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها ) ، إلا أنها لدى النفس البشرية غير المعصومة ، تتأثر بالمغريات التي تحيق بذلك الإنسان خلال رحلته في الحياة ، والمعصوم وحده يمتلك حصانة من تلك المغريات أما بقية الناس فليس في مقدور أحدهم أن يجسد العدل في علاقاته مع الله أو مع الآخرين إلا مارحم ربي ، وهنا علينا أن نتوقف في هذه المحطة الخطيرة في علاقة النفس البشرية بالعدل ، فهذه النفس في طبيعتها غير ميالة للعدل لأنه يحرمها الكثير من المكاسب الذاتية والنزعات النفسية ، ناهيك من أن هناك قوة أخرى تدفعها بعيدا عن العدل وهو ( الشيطان ) ، كما أن غياب ثقافة الشيطان في حياتنا اليومية الفردية والاجتماعية تزيد من خطورته ، فنحن نمارس حياتنا على أساس عدم وجود قوة فاعلة تتربص بنا ليلاً ونهارا لإيقاعنا في الظلم ، قوة تلازمنا أسمها الشيطان ، وقد حذر القرآن من ذلك بقوله : (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً – فاطر 6) أي اجعلوه حاضرا في اهتمامكم لتحصنوا بذلك أنفسكم ، فغيابه يعني غياب الخطط التي تحبط محاولاته ضدكم ، فيكون حال الأمة كحال من (يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون – الروم 7 ) . وقد أهتم الشيطان بالجماعات ، من أجل خلق سياق منحرف لدى الأمم ، وهناك أمثلة كثيرة في التاريخ لفرق حاولت أن توجد مفاهيم تفرق الأمة أو تربك تماسكها كالخوارج والتيار الأموي والعباسي وحديثا التيار الوهابي ، ومن الأمثلة الحاضرة نظرة الإخوان المسلمين لحل النزاع والذي يوجب الصمت والسكوت عن الظلم بذريعة تجنب الفرقة ، وكذلك الأفكار التي تطغى عليها المصالح الحزبية والشخصية لدى التيارات السياسية الإسلامية ومنها الشيعية .
ولعل من أهم الميادين تأثرا وتأثيرا بالعدل هي الذات الإنسانية ، ولذا فإن الطروحات الرسالية وأغلب الكتب السماوية ركزت على نكران الذات ، وتدريب الإنسان على خدمة أخيه الإنسان ( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة – الحشر 9 ) وأن يكون معه صادقا رقيقا متعاوناً ، ومع ذلك فلم تنجز تلك الرسالات من هذا الهدف مايحقق إرادة السماء ، واقتصرت الإنجازات بتثبيت الخط العام للأديان ، وهذا الأمر تكمن أهميته في إبقاء الإنسان يعيش ضمن إطار العدل وإن فشل في أن يمتلك منه قدرا يكفي لتعميق سعادته ورفاهيته وإقامة نظم عادلة يمكن لها أن تشيع المساواة بين العباد .
ومع أن أغلب المجتمعات تتفق على تعريف العدل على أنه إنصاف الإنسان أو المجتمع وصيانة حقوقه وعدم التجاوز على مقدساته ، إلا أن إنزال هذا التعريف إلى عالم التطبيق والممارسة بحاجة إلى شعور يلازم العمل بالعدل وهو ( الشعور الإنساني ) ، فلا يكفي أن نؤمن بأهمية العدل دون أن نقرنه بالبعد الإنساني الذي يتجاوز الذات الفردية والجمعية ، العنصرية والطائفية ، فالعدل الحقيقي هو الذي ينطلق في أجواء المجتمعات الإنسانية ويلغي أي نوع من الحدود الضيقة ، ولذلك فإن الإسلام ألغى تلك الحدود ، وحارب التعصب للإثنية والطائفية الدينية ، وقد رسم لنا الإمام علي عليه السلام قاعدة ذهبية للسير على المنهج الإلهي في العدل عندما قال : الناس صنفان إما أخو لك في الدين أو نظير لك في الخلق . وهي دعوة سماوية صريحة للتمسك بتلك القواسم الإنسانية التي تحتم على المجتمع الإنساني أن يلغي أي نوع من التفاوت الطبقي ، والإثني والطائفي .
قبل أن أتناول مكانة العدل في العلاقات الاجتماعية لدى الشعوب الإسلامية في العراق وما جاورها كنموذج ، أحب أن أعترف أن المجتمعات الغربية قد سبقتنا إلى حد بعيد في تطبيقاتها العملية للعدل ، واستطاعت أن تحقق الكثير من الأمن الإجتماعي والاقتصادي ، بل بلغت حدا لم يكن فيه للفقر موضع قدم ، وهي بذلك تحقق أسمى وأروع الأهداف التي جاءت بها الأديان السماوية ، ويحق لهذه المجتمعات أن تفخر بذلك ، في الوقت الذي فشلت المجتمعات المتدينة في تحقيقه مع أن الأسلام قد أشار إلى خطورة الفقر ودعا إلى محاربته ، في القرآن وفي أحاديث النبي وقد توج كل ذلك الإمام علي عليه السلام عندما حذر من ذلك بقوله : لو كان الفقر رجلاً لقتلته . وأعتقد أن نظرية محاربة الفقر التي بقيت دون تطبيق خلال الأربعة عشر قرنا الماضية ، وغيرها من النظريات كالضمان الإجتماعي الذي يعرف ( بالعطاء ) والنظام الضرائبي الذي يتمثل بالخمس والزكاة ، كانت الأسس التي ابتنى عليها المجتمع الغربي حضارته .
وهنا يحق لنا أن نتساءل عن الأسباب التي جعلت المجتمع الإسلامي متخلفا في تعامله مع العدل ، ولماذا بقي الإنسان فيه مهانا جائعا يستخف بمشاعره ، ومن أجل أن نعيش أجواءا عملية في الإجابة على هذا السؤال نأخذ أنموذجا وهو الشعب العراقي ، ونسقط عليه هذا السؤال ونستنطق ذلك الأنموذج بأبعاده المختلفة الفكرية والاجتماعية والسياسية ، علنا نجد بعض ضالتنا مع الإعتراف بأن السؤال كبير والإجابة عليه بحاجة إلى جهود كبيرة مضنية ، وليس في وسعنا إلا أن نوصل بعض الحقيقة التي تمنحنا ولو فكرة متواضعه لعلها تكون مدخلاً لمعرفة الحقيقة بأبعاد أوسع . ونعتقد أن الشعب العراقي أكثر ملائمة لأنه يمثل حسب وجهة نظرنا النهج الأكثر قربا للإسلام المحمدي لأنه يستقي مبائه ومفاهيمه من أهل البيت عليهم السلام ، بعيدا نوعا ما عن كثير من الأنحرافات الفكرية والفقهية والتاريخية التي خلفتها السياسات المختلفة على المدارس الإسلامية الأخرى من بداية الحكم الأموي وحتى سقوط النظام البعثي .
1 comment
ليس هناك كالعدل الذي كان في العراق ….وليس هناك ظلم كالظلم الذي يقع على العراق