الوقت والتقدم قرينان لا يفترقان لدى الشعوب الواعية والذكية والحريصة على حاضرها ومستقبلها ، وإذا أردت أن تحكم على أمة ما بالفشل والتخلف والهوان فما عليك إلا أن تسلط عليها حاكما يجهل أهمية الوقت فيستهين به ويترك لدوائره أن تنصب له مشانق في عقول موظفيها ورؤساء أقسامها ، وهذا ما نراه واضحا في جميع دوائر حكومة العراق وخاصة في محافظات الوسط والجنوب .
ونعتقد أن المعيار لنجاح الحاكم هو مدى اهتمامه بالزمن ، فالحاكم الذي لا يلزم وزاراته بعدم ضياع الوقت وفق أحدث الآليات والقوانين والأوامر ، أو لا يلزم موظفيه بأهمية استغلال كل دقيقة تمر وعدم التفريط بها ، من خلال توصيات صارمة وتوصيات محددة هو حاكم لا يصلح أن يقود الأمة ، بل هو فاشل ، ولا ريب أن هناك أسباباً ذاتية تمنعه ، أو خارجية يعجز في العامل معها ، لكن محصلة الأمر أن مثل هكذا حاكم سوف يكون عالة على الأمة والوطن ، ويصبح أمر تغييره ملزما للأمة إلا إذا كانت الأمة ذاتها تعاني من خلل ما بحاجة إلى إصلاح ، وعندها تكون الكارثة ليست في وجود الحاكم وحسب ، وإنما في وجود أمة تجهل مصالحها أيضاً فأفرز فشلها فشلاً آخر.
وفي العراق لست بحاجة إلى كبير جهد لتكتشف أن الزمن فيه لا قيمة له ، ولعل الأخطر في هذا الأمر ، أنه ليس هناك من يلتفت إلى هذه الحقيقة ، ففي إنجاز المشاريع أو مصالح الناس وفي المعاملات المختلفة ، مرور عام ومرور ساعة سيان ، الفرق بينهما معدوم تماما ، ولذا فإن تأخير إنجاز أي مشروع سواء كان إستراتيجيا أو غيره لا يشكل مشكلة لدى أي مسؤول في الدولة ، ولن يكون مدعاة لحزن أو غضب وزير أو رئيس وزراء ، وكذلك فقد اعتاد الموظف أن يركن ( معاملة ) المواطن جانبا دون أن يشعر بوخز الضمير ، ففي أعراف الدوائر لا يوجد قانون يلزم الموظف بإنجاز معاملات المراجعين وفق مدة محددة ، كما هو معمول به في دول العالم . كما أن الموظف يشعر بأمان كامل من أي عقوبة بل من أي عتب من رئيسه ولا من غيره ، ولذا فأن الموظفين الذين أمضوا سنوات طوال في زمن النظام السابق يتقاضون ( رشاوى ) ويتعمدون على تأخير أنجاز المعاملات لإجبار المواطنين على دفع مبالغ لإنجازها قد أصبحت تلك الخصلة عادة متأصلة في داخلهم ، فبقوا يمارسون ذلك بحرية تامة في زمن ما بعد التغيير ، مع ضخامة رواتبهم يشجعهم على ذلك غياب الرقيب ، وعدم وجود قوانين رادعة .
ولا بأس في إيراد مثال حي لكارثة الاستخفاف بالوقت في زمن ( الحكومة الحالية ) ففي يوم 21/11/2012 رفعت إحدى المديريات في النجف الأشرف كتاب إلى وزارة الزراعة في بغداد تطلب فيه بيان رأيها في كيفية احتساب شهادات دراسية حصل عليها الموظف المفصول سياسيا أثناء مدة الفصل السياسي ، فمن أجل أن تجيب وزارة المالية على مثل هذا السؤال ( العادي حد القهر ) بقيت المعاملة تذهب وتجيء لغاية 25/7/2013 قبل أن يصدر الرأي في سطور خمسة بائسة . فكل المؤشرات العقلية والرسمية والإدارية تدل على ان الأمر لا يحتاج سوى أيام قلائل ، وفي دول الله مع وجود خدمة ( الانترنت ) لا يأخذ الأمر من الزمن أكثر من ساعة واحدة ، وبهذا تكون دوائرنا قد أحرقت من الزمن ما يعادل ثمان أشهر ، وتكون الحكومة بذلك قد أحرقت الوطن ، ففي تلك الأشهر خسارة مادية كبيرة للبلد ولصاحب الطلب والذي هو من الكفاءات التي تدعي الحكومة أنها تبذل الجهود من أجل استمالتهم للعودة للعراق من أجل المشاركة في بنائه . علما أن هذا التعامل المهين للزمن قد أصبح عرفا مـألوفا في كل وزاراتنا ودوائرنا الرسمية ، ويشكل ذلك كارثة وعائقا أمام أي محاولة للانعتاق من التخلف الذي يرمي بثقله على كل ربوع بلدنا الحبيب ، لأن الزمن هو من أهم آليات التغيير ، وغيابه هو غياب أي محاولة لذلك التغيير.
الذي يثير الكثير من التساؤلات التي يصاحبها ألم في صدور ووجدان المخلصين ، أن الحكومة لم تكترث لهذه الجريمة ولم تضع حلولا لها ولم تفكر في تشريع قوانين تحد من مخاطرها ، وكأنها تأنس لها تعمدا أو جهلاً ، وهذا يعني أن محرقة الحكومة للزمن باقية ما بقيت . ويزيد من قناعتنا في أن مشكلة الاستخفاف بالزمن لم تشكل معضلة في أغلب بلدان العالم وأن وضع الحلول لها لا يشكل مشكلة في هذا الزمن مع وجود الحكومات الالكترونية والاستخدام الواسع لأجهزة الحاسوب والانترنت ، وأن أغلب دول العالم درجت على أنجاز أكثر من 90% من معاملاتها الرسمية ومصالح مواطنيها عن طريق الاتصال التلفوني أو الانترنت ، ومع أن هذه الخدمة قد أصبحت متاحة بشكل واسع وبسهولة بالغة في الدول المتقدمة والمتأخرة ، تبقى غائبة بشكل خطير في وزاراتنا ودوائرنا الرسمية في ظل حكومة المالكي ، فليس في وسع المواطن بل وحتى الكثير من الموظفين أن يتصل بأي دائرة للاستفسار عن أي شيء ، وهذا يعني ومن أجل أن تحصل عن معلومة سواء كانت مهمة أو تافهة من أي وزارة أو دائرة عليك أن تسافر إلى الوزارة المعنية وتحرق من وقتك وجهدك وأموالك ما لا يرضى به الله والعقل في حين يمكن تحقيق ذلك بمكالمة تلفونية .
لقد درجت الحكومات التي تتصف بكيانات صحية في غير العراق أن تتعامل مع الزمن بدقة بالغة ، فهي تدرك كما يفعل العقلاء ، أن الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك ، أي أن الساعة التي تمر مع الربح تكون قد خسرتها إلى الأبد لأنها لن تعود ، ومن خلال وجودي الطويل في المملكة المتحدة رأيت أن الحكومات فيها تعير إلى الزمن كغيرها من الحكومات المخلصة الكفوءة اهتماما بالغا في كل مجالات الحياة الكثيرة ، فبريطانيا وضعت آليات تضمن عدم هدر الزمن والجهد والمال . فالنظام البريدي المتكامل في المملكة المتحدة وفر الفرصة للتخاطب بين الدولة والمواطن ، فأكثر من 98% من المعاملات يتم انجازها أو متابعتها أو إرسال متطلباتها عبر التخاطب البريدي بين المواطن في محل تواجده وبين الدائرة ذات العلاقة ، وقد أسست الدولة لذلك الأمر شبكة متطورة لدوائر البريد ونظاما دقيقا لترقيم العقارات والمساكن وخصصت رموزا بريدية للشوارع والمناطق المختلفة .
والذي يتمعن في تاريخ اليابان يجد أن اهتمام اليابانيين بالزمن واستغلاله بدقة بالغة هو الذي نقل البلد إلى ما هي عليه من وضع يبهر الجميع ، فالمعروف أن الولايات المتحدة الأمريكية قد انسحبت من اليابان سنة 1952 أي بعد 7 سنوات من انتهاء الحرب العالمية الثانية ، وكانت المدن اليابانية وقتها أشبه بركام ، لكن الحكومة اليابانية وشعبها وضعت برنامجا زمنياً دقيقا شاملاُ لتخليص اليابان من آثار الحرب المهولة آنذاك ، وبسبب استغلال الزمن بدقة كبيرة في تنفيذ برنامج الأعمار واستغلال الموارد المادية والبشرية فقد استطاعت اليابان في سنة 1964 أي بعد 12 سنة أن تتخلص من آثار الحرب المدمرة وتنتقل لمصاف الدول الصناعية المتقدمة .
ونحن نعتقد أن الإنجازات الكبيرة التي تحققت في اليابان أو في أغلب دول العالم هو بسبب إدراك الحكومات وشعوبها للزمن وأهميته في تنفيذ البرامج المختلفة ، لكن عندما لا تمتلك الحكومة أي تصور لأهمية الزمن ، أو تكون الصورة أكثر بشاعة عندما تتستر على الفساد والمفسدين وتتعامل مع كل مقومات بناء البلد بعقلية متخلفة كما هو حاصل في تعامل حكومة المالكي ، يصبح التفكير في استغلال الزمن ( نكتة ) يتداولها أبناء الشعب ، لكنها نكتة مبكية ، فالحكومة التي عجزت عن توفير الكهرباء والماء الصالح للشرب لمواطنيها ، وفشلت في ضبط الأمن ، ولم تخطُ مترا واحدا في أغلب مجالات الحياة الاقتصادية أو التجارية أو الاجتماعية ، حكومة تتعامل مع الواقع بارتجالية وفوضوية ، حكومة وبعد ثمان سنوات من تسلمها إدارة البلد ، لا تمتلك حتى نظاما داخليا يبرمج عملها ، علما أن المتخصصين يرجعون امتناع الحكومة عن كتابة نظام داخلي لها ، هو هروبها من قيود ذلك النظام الذي ربما يحرجها أمام القانون ، ويجعلها تتحرك بحرية في أجواء الفساد والتعيينات الوظيفية والاستحواذ على المؤسسات المستقلة وقضم الكثير من الامتيازات ، إذن هكذا حكومة يصبح التفكير في إصلاحها أو تذكيرها بأهمية الزمن ، مضيعة للزمن ذاته ، ويتحتم على الأمة أن تتخذ من فشلها تجربة يجب الاستفادة منها في تشكيل الحكومات القادمة .
1 comment
كلمات رائعة وممتعة ومعبرة احسنت والى الامام يا اخنا العزيز انت مبدع