سليم الحسني
قبل ان يتسلم منصبه بست سنوات، اقتنى أول هاتف جوال في حياته، تردد اسبوعاً كاملاً قبل أن يقدم على شرائه، وحين امتلكه لم يجر أي اتصال إلا بعد مضي أربعة أيام، قضاها في النظر اليه، وجرب طريقة حمله في حالات المشي والوقوف والجلوس، وعلى أي أذن من أذنيه يضعه، ثم كيفية استخدام هذه الآلة العجيبة. وقد اكتشف خلالها أن لحاسة اللمس معنى في حياته.. كما ولدت عنده ثقة بالقدرة على التمييز بين النغمات الموسيقية.
مع الهاتف الجوال خطى خطوة مؤثرة في حياته، لقد اصبح التواصل ممكناً مع اصدقائه في أي وقت يشاء، وكان أكثر ما يريحه أن المتكلم يمكنه أن يتحدث وهو يمشي، وان يتعرف على المتصل به قبل محادثته، وامور كثيرة استغرقت وقته حتى ألف التعامل مع بعضها.
حين تلقى أول مكالمة هاتفية، كان يجتاز شارعاً مزدحماً، تعثر حين سمع الرنين، صدم إمرأة، تمزق طرف جيبه وهو يخرج الجوال، تداخلت الأزار امام عينيه، وجدها اكثر عدداً من قبل، انقطع الرنين، لقد ضغط على الزر الخطأ.
جلس على ناصية الطريق، جفف عرقه بمنديل مثقوب، عبّ نفساً عميقاً يستعيد قواه المهدورة، أخرج الجوال من جيبه بعناية فائقة، تفحصه بدقة، علقت بحافته حبة كشمش، وخيط من مزقة القميص، أزالهما، رمى الخيط في الهواء، وأبتلع الحبة.. علق الخيط بظفره، هزّ اصبعه بشدة، زال الخيط وسقطت حبة الكشمش من فمه، أعاد الجوال الى جيبه.
سمع الرنين ثانية، كان خافتاً هذه المرة، قفز واقفاً بخفة طفل، انتشله بسرعة، محدثاً المزيد من التمزق في طرف الجيب، عادت أزرار الارقام والعلامات تتضاعف، تداخلت الألوان والاشكال، أمعن النظر بأشد ما يمكنه من التركيز، وجد الزر المطلوب، عصر الجوال بأذنه، ردد بصوت عال: ألو.. ألو، لكن الرنين لا يتوقف، يخفت ويرتفع بعشوائية، ضغط الزر عدة مرات، وكبس على آخر، والرنين لا يتوقف.. دلكه بصدره، إختفى الرنين وقد أحس بضربة خفيفة أسفل ظهره، التفت فوجدها علبة فارغة، يركلها طفل.. شعر بالحرج والغضب والإحباط، إبتعد بخطوات واسعة سريعة، صدم إمرأة أخرى، لم يكترث لها، كفاه ان مكالمتين ضاعتا منه.. لقد نسي ان الثانية كانت علبة الطفل الصغير.
لم تكن بداية مشجعة، غير أنه تعلم منها أن يمسك الهاتف بيده، فلا يدسه بجيبه.. يبقى مستنفر الحواس، فقد يسمع الرنين في أية لحظة، ولا بد أن يكون على أهبة الإستعداد حتى لا تفوته مكالمة.
تحول الهاتف الجوال الى جزء منه، يتحسسه كل بضع دقائق، يتفحص رنته، يرفع صوتها الى أعلى مستوى، يضعه امامه على الطاولة، ينظر الى شاشته الصغيرة، يتلمس أزاره ليتأكد من سلامتها، يقرأ ارقامه ليطمئن الى بقائها. كان اكثر التصاقاً به من ملابسه الداخلية. وكان يغير نغمة الهاتف عدة مرات في اليوم، وحين يسمع رنيناً، يلتقطه بحركة خاطفة، لكنه يكتشف انه لهاتف شخص آخر، يمشي بجواره، او يجلس قربه، فيمني نفسه بالحصول على فرصة الحظ مثلهم ذات يوم قريب.
عندما يأوي لفراشه، ينام هاتفه محاذاة الوسادة، يضعه فوق منديله المثقوب.. ويغرق في تفكير عميق، يقارن بين مرحلتيه، ويضع إحتمالات ما سيكون عليه مستقبله في ظل الهاتف الجوال.
في ساعات النهار يعقد مقارنات جادة بينه وبين أمور وأشياء أخرى، فيخرج بنتيجة مفادها أن الجوال هو الأهم. في إحدى المرات توصل الى أنه أهم من ملح الطعام، وأنفع من التلفاز، وأفضل من الجوارب.. وذات مرة قطع أن الجوال أكثر أهمية من العلاقة الجنسية، وقد خاض جدالاً حامياً مع صديق له لكنه عجز عن اقناعه بوجهة نظره، فانصرف عنه مغاضباً، وقد قرر إنهاء العلاقة معه الى الأبد.
***********
بعدما تولى منصبه، زال عنه شغف الهاتف مع الأيام، انقلبت موسيقى الرنين الساحرة، الى اشواك توخز أذنيه.. واصبح حين يرى الاسماء تظهر على شاشته، تضلله غيمة داكنة من الإكتئاب والضجر، إنها أسماء لأشخاص يذكرونه بالماضي.. بالسنوات التي قضاها منسياً قابعاً في زوايا معتمة.. اشخاص كان يلوذ بهم حين تعضه الحاجة، أو يشغله شاغل، أو يشعر بالضجر.. حين يسقط في الوحشة، أو يحس بوطأة الغربة، أو يحتاج الى ترطيب نفسه بكلام هادئ صادق معهم.
تلك فترة ذهبت، لا يريد لها أن تعود، لقد وصل الى منصبه في لحظة كان الزمن فيها نائماً، فكيف يفرط بها؟.. كيف يسمح لأولئك أن يتحدثوا معه، فقد ينبهون الزمن من غفلته فيعيده الى ما كان عليه، وتلك هي القاضية.
كانت تزعجه هذه الاسماء باتصالاتها، تثير فيه رعدة الخوف، إنها الشاهد على خطأ المكان.. فهل تلاحقه هذه الاسماء لتزيله من نعيم لا ينتهي؟.. أيجيب على هذا وذاك، فيطل جسد الحقيقة عملاقاً ينتصب أمامه، يذكره بأنهم كانوا عونه وغطاءه وسدة رمقه؟.. كيف يجيب وقد تنشط الذاكرة فجأة فتصرخ بحاله أيام زمان؟.
إبق على صمتك أيها المسؤول، ودع عنك تلك الأيام برجالها وما فيها وما كان من أمرها، ففرصة العمر واحدة، ومن يعرف إقتناص الفرص يدوم بقاؤه وسلطانه.. وإياك ثم إياك أن تجيب اتصالاً، فقد يسمع الزمان نبرتهم، فيعيدك سيرتك الأولى.
*** ***
أصدر أوامره في ليلة غاب فيها القمر، مع أنها كانت منتصف الشهر، بتجهيز وليمة حافلة، دعا لها جمعاً من القوم، تخيرهم بأسمائهم ووجوههم، جالسوه من قبل فأصيبوا بعدواه، أبلغهم أن الأمر خطير.
حمل الخدم الأطباق، كانت خرافاً مشوية مسدودة الآذان، صبوا فيها رصاصاً مصهوراً، وجاؤا بأرانب مقطوعة الآذان على عددهم.. ونصبوا أربع بقرات صماء عند أركان المائدة، وفي منتصفها وضعوا عجلاً له خوار.
طفقوا يأكلون بشراهة، يستخدمون كلتا اليدين كعادتهم، يلعن أحدهم الآخر في سره، حتى أتوا على الطعام كله.. فأوقد لهم الخدم ناراً، وقرعوا على طبل من جلد نتن.. تحلقوا يتهامسون بينهم ساعة من الليل، ثم توجهوا صوب النار، فاخرج كل منهم ورقة عليها اسماء، يلقيها وسط اللهيب، حتى انتهوا عن آخرهم، عادوا الى مائدتهم، وقد كساها الرماد، قال أحدهم وكانت على جبينه ندبة داكنة:
ـ أحرقنا الاسماء، فلم يعد هناك ما يذكرنا بما مضى.
هبت ريح رملية، وانطلق من رأس العجل صوت خشن :
ـ أحرقتم الاسماء، فلم يعد هناك ما يذكركم بما مضى .
وضعوا أيديهم على رأس العجل، أقسموا أن لا يجيبوا على اي مكالمة، ولا يفتحوا باباً، ولا يستقبلوا زائراً.. وتنادوا لبناء سور جديد، يضربونه حولهم، فيه فجوات بعدد معلوم، شكلها كرأس الغراب، يلجون منه في ذهابهم وإيابهم.
قبل ان يتفرقوا، مسحوا آذانهم برأس العجل، ومن ساعتها، صارت الكلمات والصرخات والدعوات والاستغاثات تتحول في اسماعهم الى طنين، لا يفقهون منها شيئاً.. لقد أصابهم صمم العجل .
للقصة بقية …..