فتح باب ( الاجتهاد في تقدير المصلحة الوطنية ) خارج الاطر الدستورية يمثل انقلابا على الدستور . الامر الاكثر خطورة في هذا التطور ان المحكمة الاتحادية ( وهي المحكمة الدستورية العليا في العراق ) قد مارست الصمت على الخروقات الدستورية المتعددة للسلطتين التنفيذية والتشريعية بل وصارت تباريهما وتسجل عليهما سبقا ، في هذا الميدان .
مايثير الحيرة حقا ، ان هذه الاجتهادات التي تمارسها اذرع السلطة الثلاث لا تتم في مساحة غياب النص التشريعي بما يعطي للاجتهاد مبررات شكلية ، انما تاتي بمخالفات ازاء نصوص دستورية واضحة ترتبط باعراف وتقاليد وممارسات سياسية راسخة ولاتقبل التأويل .
امام هذا الواقع ، تصاعدت نبرة الدعوة الى رفع القدسية عن النص الدستوري بحجة التعارض بين النص و المصلحة الوطنية وفق التقديرات السياسية ، وهو منطق انقلابي خطير ينحى باتجاه شرعنة القوة على حساب قوة الشرعية المتمثلة باعتماد الاليات الدستورية والقانونية في التعامل مع النص الدستوري وتغييره ، والاستخفاف بالارادة الشعبية التي عبر عنها الاستفتاء الشعبي على الدستور العراقي .
ان كون المحكمة الاتحادية تقف على راس المؤسسة القضائية ، والحارس على حسن تطبيق القوانين ، لايعفيها من طائلة القانون والمحاسبة .
وربما يشهد البرلمان القادم تفاعلات من هذا القبيل .
وبانجرار المؤسسة الحامية للدستور الى ساحة القبول بالخروقات الدستورية ، و اضفاء الشرعية عليها عند تعاملها مع طلب فخامة رئيس الجمهورية بخصوص استمرار هيئة الرئاسة في مهامها ، يكون القضاء العراقي قد انتقل بالعملية السياسية من واقع الارتهان للأزمة السياسية الى السقوط في ازمة اخلاقية .
ان الشكل السياسي لأزمة تشكيل الحكومة ، يجعلها حتى في اشد الحالات تعقيدا ، تتلمس طريقها الى الحل ولو مع انعدام خيارات التوافقات السياسية لأطرافها ذلك ان تلك الاطراف ستجد نفسها في مواجهات قانونية ودستورية ذات استحقاقات زمنية ليس بمقدورها تجاوزها .هذا ( الحل ) اصبح بعيدا عن المتناول ازاء توافقات كل مستويات السلطة وفروعها على استباحة الدستور ، وهو مايمثل جوهر ازمة اخلاقية اكثر عمقا من الازمة السياسية عندما يحصر الحلول في النوازع و الروادع الذاتية للاطراف السياسية والتي باتت شبه معدومة مع تنكر القوى السياسية للقيم الاخلاقية الاساسية للديمقراطية في الحرية والعدل والمساواة . وهو مايؤكد ان العارض السياسي ناشئ اساسا عن ازمة اخلاقية عميقة ترتبط بجوهر الايمان بعملية التغيير التي حصلت في العام 2003 والقيم العليا للديمقراطية .
فالقوى السياسية الفاعلة ، وتحت عنوان المصلحة الوطنية العليا ، حاولت تكييف الديمقراطية الجديدة مع الخصوصية الوطنية ، الا انها وفي خضم انشغالها بالصراع على السلطة والمصالح الحزبية ، وجدت نفسها تغرق من جديد في وحل الارث الثقافي الشمولي – الاستبدادي للدولة العراقية التي افتقرت خلال تاريخها الطويل الى الممارسة الديمقراطية .
ان فشل المسيرة الممتدة منذ العام 2003 في انتاج ثقافة التعايش مع الاختلاف والتداول السلمي للسلطة واعتماد شجاعة الاقرار بالخسارة تقف وراء الشكل السياسي لازمة تشكيل الحكومة . لقد امتد هذا الفشل ليشمل جميع اوجه السلطة في البلد والتي مهدت وكرست واقع الانتكاسة الدستورية .
وفق هذه المقاربة ، يبدو الخروج من ازمة تشكيل الحكومة في وقت قريب معطلا ، بسبب انعدام الحافز الذاتي لدى الاطراف الأساسية في الصراع .وهو مايجعل الدخول الدولي على خط الازمة واردا بعد بروز الدور الاقليمي بشكل واضح خلال الايام الماضية .
قد يكون الوقت ، حتى مع التاكيد على احترام المهل الدستورية ، قد نفد ازاء تصلب الاطراف السياسية على مواقفها دون تغيير . وقد يكون تدويل الازمة العراقية او العودة الى مربع ماقبل الانتخابات عناصر واردة في معادلة التعاطي مع الازمة ، وهو مايتوافق مع ارادات سياسية داخلية وخارجية تجد مصلحتها في اعادة رسم ملامح الخارطة السياسية بما يبقي على نفوذها في السلطة ، وقد تنفتح المفاوضات والحوارات في الوقت القصير المتبقي على حلول توافقية تجنب الجميع سيناريوهات اكثر سوءا … قد وقد وقد … الا ان المؤكد ، في كل الاحوال ، ان الازمة العراقية هي ازمة اخلاقية اكثر منها سياسية ، وهي ستمتد ، حتما ، الى مابعد تشكيل الحكومة .