يروى أن أحد أئمة أهل البيت كان خارجا من المسجد في المدينة وكان الوقت ليلاً ولم تكن هناك كهرباء وطنية ولا مولد، فعثر برجل نائم فقام منزعجا ليسأل الامامَ بغضب:
هل انت اعمى؟
فأجابه الامام على الفور: لا.
هنا اندفع احد أنصار الامام نحو الشخص الذي اساء الأدب ليعلمه الادب، فامسك به الامام قائلا: وماذا فعل الرجل؟ لقد سألني فأجبته.
القصة، بمعزل عن جانبها الاخلاقي الراقي، تعكس لونا من البلاغة العربية التي تعتبر العمى حالة معنوية لا تتعلق بالعين، وهي بلاغة استعملها القرآن- أبلغ وثيقة عربية- للدلالة على الضلال في آيات كثيرة من قبيل:
«وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلاَلَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ».
«أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ»
اذن العمى نوعان: مادي ومعنوي، ونحن هنا معنيون بالعمى المادي الذي هو ايضا انواع يجدر بنا التعرف اليها كي لا نعمى على حين غرة. فالعمى –كالضلال والاغترار بالدنيا- في الغالب يأتي تدريجيا من دون ان يشعر به إلا بعد أن يرتطم السائر بجدار أو يسقط في حفرة ثم يكشف الفحص الطبي عن تدهور خطير في البصر… هل من المصادفة ان يشتق اسم العقل من البصر فيسمى بالبصيرة؟
أنواع العمى
تبعا لاختلاف الاسباب ينقسم العمى الى اقسام منها العمى الليلي والعمى المحيطي والعمى البقعي وعمى الالوان الى انواع اخرى تختلف تسمياتها وتتفق حقيقتها، فالعبرة في الحقائق لا بالاسماء.
وفي ما يلي سنمر على بعض الانواع الشائعة من العمى، مع تركيز على الاسباب والاعراض كي يستفيد منها من له عينان بصيرتان كما يقول القرآن.
الماء الاسود Glaucoma
يسمى بالزرق او داء الزرقاء (نسبة لزرقاء اليمامة التي كانت معروفة بالرؤية عن بعد، فترى ما لا يرى قومها).
ينتج العمى الاسود من ارتفاع الضغط داخل العين… ما هو الضغط داخل العين؟ وكيف يرتفع؟
لو نظرنا الى العين (بالعين) لرأيناها كرة مملوءة بسائل يعرف بالسائل الزجاجي الذي يحافظ على كرويتها عن طريق الاحتفاظ بها مملوءة بهذا السائل، فهي كالبالون الذي يمتلئ بسائل فاذا قلَّ فيه السائل انبعج. السائل يولد ضغطا ضروريا لاحتفاظ العين بشكلها الكروي (الذي هو بدوره ضروري لقيام العين بوظيفة الابصار).
يتولد هذا السائل من منبع يصبه داخل العين باستمرار، ويخرج من العين عن طريق مبزل يشفطه باستمرار. وهو يتولد بمعدل سنتمتر مكعب واحد في الدقيقة ويـُبزل بالمعدل نفسه. ومن الضروري لصحة العين ثبات الضغط داخل كرتها، وثبات الضغط يتأتى من خلال تساوي انتاج السائل الزجاجي مع بزله، فاذا قل الانتاج بالنسبة الى البزل انخفض الضغط داخل العين، واذا زاد الانتاج على البزل ارتفع فيها الضغط.
وما يحصل في العمى الاسود ان قناة البزل تنسد فيستمر انتاج السائل دون أن يتم تصريفه فتؤدي هذه الحالة الى ارتفاع الضغط داخل كرة العين، الأمر الذي يؤدي الى الضغط المتزايد على العصب البصري ثم الى اضمحلاله وفقدان البصر.
الجدير بالذكر ان هذا السائل ليس هو الدمع الذي يجري خارج كرة العين فيغسلها من الخارج، فالسائل الزجاجي منحصر داخل كرة العين والسائل الدمعي خارجها، لا يختلطان ببعضهما البعض ولا يقتربان من بعضهما البعض، وبينهما برزخ، ولا علاقة بين السائلين الا كعلاقة الحكومة بالشعب في الدول التي لا نستطيع ذكر اسمها.
الماء الابيض Cataract
نوع آخر من العمى يعرف بالماء الابيض، وهو مرض غير معد يصيب «عدسة العين (الصفحة غير موجودة)» فيعتمها ويفقدها شفافيتها، مما يسبب ضعفا في البصر من دون وجع.
اما لماذا سمي هذا المرض بالماء الابيض؟ فالجواب:
ان البؤبؤ (مركز العين) يبدو اسود اللون عند جميع الناس، ومصدر اللون الاسود هو الشبكية سوداء اللون والتي تـُرى من خلال العدسة الشفافة (عديمة اللون بسبب شفافيتها الكاملة وكأنها زجاج نظيف). العدسة السليمة – وهي غير مرئية بسبب شفافيتها الشديدة – تصبح في هذا المرض كثيفة معتمة فيبدو البؤبؤ للناظر أبيض اللون بسبب كدورة العدسة التي لا تعود تظهر لون الشبكية الاسود، لذا سمي هذا النوع من العمى بالماء الابيض.
يعاني المصاب بالماء الابيض من تحسسه للانارة المبهرة والقوية مع ضعف في النظر ليلاً. وانخفاض شفافية العدسة يمنع مرور الضوء منها (اذا كان الداء شاملا وكاملا)، أما اذا كان جزئيا فانه يشتت النور في النهار فتكون الرؤية ضبابية، ويقلله في الليل فتكون الرؤية صعبة بسبب قلة النور الداخل الى العين.
هذا المرض قد يصيب عينا واحدة أو العينين معا وعلى العموم لا ينتقل من عين إلى أخرى. ومن أهم أسباب هذا المرض التقدم في العمر وقد يكون من مضاعفات «السكري» مرض السكر أو بسبب كثرة استخدام الكورتيزون.
لا علاج للعمى الابيض الا برفع العدسة التالفة وزرع عدسة صناعية عوضاً عنها.
عمى الالوان Colour blindness
في حديث مع احد اصدقائي الحميمين شكا لي من معاناة اخته التي اعرف زوجها واستغربت من الشكوى منه، فهو انسان دمث الاخلاق هادئ الطبع حلو المعشر كريم النفس، فمن اي شيء تشكو امرأة من هذه الاخلاق؟
تبدأ معاناتها من ايام زواجها الاولى بعدما عادا من شهر العسل واصبح من واجبه تسوق الخضار وواجبها طبخها ليأكلا معا رزقا حلالا من كد الزوج ومن اعداد الزوجة.
لكن الزوجة لاحظت انه لا يعرف كيف يختار الخضار، فغالبا ما يختار الطماطم الخضراء والتفاح غير الناضج والثمار الذابلة التي يحكي لونها انتهاء «ولايتها» فلا يرغب فيها الا المفلسون… ورغم نصائحها المتكررة وتعليماتها الواضحة باختيار الخضار الطازجة والفاكهة الناضجة فقد بقي الرجل يشتري نفايات سوق الخضار بأغلى الاثمان.
لم تعرف في البداية سبب هذه الحالة، فلا هو بالبخيل الذي يبحث عن البضاعة الرخيصة، ولا هو بالغبي الذي لا ينفع معه تعليم، ما هو التفسير إذن؟ بقيت لا تعرف الى أن اشترى سيارة ووضع زوجته الى جانبه وانطلقا فرحين مسرورين، وما هي الا دقائق حتى اوشكا ان يفقدا حياتهما في تجاوز اشارة حمراء لم يكترث بها صاحبنا، وعندما نبهته الى خطورة ما ارتكبه كان رد فعله ان توقف عند الاشارة الخضراء في التقاطع التالي لترتفع ابواق السيارات خلفه ويتعالى «الدعاء له ولوالديه» من افواه سائقي الخطوط الذين لهم قاموس خاص بهم والذين حجزهم خلفه بلا مبرر.
اخيرا تبين ان الرجل مصاب بعمى الالوان، فهو لا يميز الطماطم الحمراء من الخضراء ولا يدري- في المرور- اي اشارة هي خضراء وايها حمراء، وهذا المرض وراثي ولا علاج له ويستدعي ان تمنع صاحبه من ان يتكلف امور معاش احد، وان يتوقف عن ان يتولى مكان القيادة لئلا يقتحم بمن ركبوا معه مخاطر تهدد حياتهم إذا تجاوز الاشارة الحمراء، او يؤخرهم عن الركب اذا توقف عند الاشارة الخضراء.
أي انواع العمى اشد وطأةً واعظم قيلا؟
تختلف آراء الناس في الاجابة عن هذا السؤال، لكن ما لا شك فيه ان العمى الذي لا يعلم به صاحبه الا بعد ان يصطدم بجدار او يقع في بئر هو الاخطر عليه وعلى من يمشون وراءه.