أُطالع في وجوه هؤلاء التُّرابيين فلا أجد أثراً من ذلك الترُّاب، الذي توسده ابن أبي طالب، ولا الكُنية التي كُنّي بها. ولا نريد لهم توسد أتربة المساجد، فلكل دهر رجاله وأحواله، وليس بالضرورة محاكاة ذلك النَّجم في العِفة، لكن ليتركوا في بيت المال فضلةً للنَّاس، ولا يستمرون بخداع المحرومين، مثلما يفعلونها الآن، وفعلوها سابقاً.
أحد هؤلاء التُّرابيين، وهو من وزراء العهد الجديد، كان همه في المعارضة تأسيس جمعيات خيرية، لإنقاذ أيتام العراق وأرامله من بؤس الحصار والنِّظام السابق، على حد ما كان يعلنه، وجمعيات باسم الأهوار حيث حديث المعارضة السابقة عن تجفيفها، وهي الآن غدت في خبر كان، وقد جمع أموالاً طائلة من أهل الخير والميسورين، باسم الأَطفال، وإذا بالأموال تذهب لشراء دور وأراضٍ له بإيران! وآخر جمع من الأموال، حتى أن عدداً من الميسورين خصصوا لجمعيته دفعةً شهريةً، وما أن حط ركابه بالعراق، وإذا البناء يصعد وسط مدينة البصرة.
من التُّرابيين مَنْ أخذ مقاولة مائتي مدرسة، سمعنا هذا من رئيس هيئة النَّزاهة، وهو قريب لأحد المسؤولين الحزبيين، الذين يقررون الآن حاضر العراق ومستقبله، أخذ هذا المقاول يضع حديداً، في أماكن البناء، كإشعار بالبدء بالبناء لضمان التَّحويل المالي، لكن لا بناء ولا يحزنون، مع أن المتعارف عليه ألا يسلم المقاول الواحد أكثر من مدرسة أو مدرستين، ومتى نفذ ما تعهد به قد يسلم مقاولة أخرى!
وتُرابي آخر تسلم المسؤولية وبعدها مباشرة أصبحت له أموال البرامكة، بيوت ووسائل إعلام تعبئ اسمه في آذان الجمهور، بل يظهر المحللون لتحليل خطابه، أو يشرحون ما كتب حوله، مقلداً الرئيس السابق تماماً. ولما سئُل هذا التُّرابي عن مصدر مصروفاته، في الإعلام والمكاتب قال: إنها تبرعات أهل الخير! وأهل الخير هؤلاء لم يتبرعوا له في السَّابق عندما كان يعيش على الإعانة الاجتماعية! هنا مِنْ باب التَّذكير أن الأموال التي جبيت له من أهل الخير كانت باسم وظيفته، أو على وعود لتنفيذ ما يتطلبه هؤلاء، وحسب الحديث الشَّريف هذا لا يجوز، وخصوصاً إذا كان صاحبنا ما زال يَدعي التُّرابية.
روى البخاري(ت 256 هـ): ”اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَجُلًا مِنْ بَنِي أَسْدٍ، يُقَالُ لَهُ ابْنُ الْأُتَبِيَّةِ عَلَى صَدَقَةٍ. فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي. فَقَامَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى الْمِنْبَرِ، قَالَ سُفْيَانُ أَيْضًا: فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: مَا بَالُ الْعَامِلِ نَبْعَثُهُ فَيَأْتِي يَقُولُ هَذَا لَكَ وَهَذَا لِي، فَهَلاّ جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَيَنْظُرُ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لَا! وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَأْتِي بِشَيْءٍ إلاّ جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ. ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَتَيْ إِبْطَيْهِ أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ ثَلَاثًا”(الكتب السِّتة، صحيح البخاري، باب هدايا العُمال، ص 598 حديث رقم: 7174).
لست طالباً من عمال اليوم أن يلتزموا كلَّ هذا الالتزام، لكن عليهم ألا يوظفوا إسلاميتهم، وتقدمهم الصُّفوف في المناسبات الدِّينية، التي تحول فيها النَّاس إلى شاردي الأذهان، جفت فيهم مطالب الحياة، تحت رايات أولئك التُّرابيين، طمعاً في الاستمرار بسوق الرَّعية إلى حتفها، وبالشَّرعية الدِّينية.
نفهم من خطابهم أنهم يسيرون على هُدى آل البيت، ويرفعونهم شعاراً، ويعزون ويهنئون المهدي المنتظر بوفاة وولادة، وإذا سألت أحدهم: ما هي عوالم مدرسة آل البيت! لقال لك: الصُّدق والأمانة والتَّضحية والإيثار! وغيرها من العموميات. فلا هم يلتزمون عناوينها ويترجمونها على أرض الواقع كأخلاق، ولا اشتقوا منها ما يبني البلاد، ويُشيد الصناعة، ويُحسن الزراعة، إنما هو شعار يُرفع بلا تفاصيل، فلا يريدون منها سوى زج النَّاس بمجالس بكاء، ومواكب لطم متواصلة.
بيد أنها لو خُليت من تُرابيين صادقين لقُلبت، قلتُ هذا لما قابلت مصادفةً ملحقاً تجارياً، بعد استقالته أو إقالته، وأكد ما كتبه عن واقعة فساد كبرى جرت عبر دائرته ووزارته التِّجارة، حيث الأموال تأتي إلى روما وتَصب في حساب مجهول، والرَّجل من أعضاء حزب الدَّعوة، مثلما هو أخو المقاول لمائتي مدرسة! وممَنْ تعرض من قبل للموت بعد تسليمه إلى السُّلطات السَّابقة. ذهب التُرابي الصادق وعرض ما عنده على المسؤولين ببغداد، فطُلب منه السُّكوت، وهُدد بعدها، وكاد يُغتال. قال لما صافحته مسروراً بمأثرته: “لنا مرجعية دين ووطن وضمير”!
لم يمر على العراق فساد مالي مثل ما هو في زمن التُّرابيين الجدد، فالقُدماء كانوا نجوماً، عمار بن ياسر(قُتل 37 هـ) وصحبه مثلاً. نعم، قد ظهر مَنْ جعل العراق بكامله مزرعةً له، لكن كلَّ شيء ظل داخل البلاد، وها هم التُّرابيون الأدعياء يتسابقون على ميراثه بالمنطقة الخضراء. وهناك مَنْ حكم العراق ولم يملك حتى سرير نومه في حالة الزَّعيم عبدالكريم قاسم (قُتل 1963). أقول: لو حاولوا التَّوسط بين النَّموذجين، وخففوا من نهب الثروة والتَّسابق على الامتلاك، فربما لا يظهر على المسؤول دليل فساد باسمه، لكن للفرزدق (ت 110 هـ): “وإن أبا الكِرشاء ليس بسارقٍ.. ولكنه ما يسرق القومُ يأكل”(التوحيدي، الإمتاع والمؤانسة).
ختاماً، خير مَنْ وصف، من أهل الأدب المنثور، مَنْ قالوا نحن تُرابيون هو بديع الزَّمان الهمذاني(ت 398هـ): “حدثنا عيسى بن هشام: كنت بنيسابور، يوم جمعةٍ، فحضرتُ المفروضة، ولما قضيتُها اجتاز بيَّ رجلٌ قد لبس دَنِّيةً، وتحنك سُنَّيةً، فقلتُ لمصلٍ بجنبي: مَنْ هذا! قال: هذا سوسٌ لا يقع إلا في صوف الأَيتام … ولصٌ لا يُنَقب إلا خِزانة الأَوقاف”(المقامات، النِّيسابورية). واقرأوا أنتم البقية.